الجمعة، 6 أبريل 2012

وَفَيْتُ، وفي بعض الوَفاءِ مَذَلَّةٌ

الشرق       
 يونيو  2011

أبو فراس الحمداني لم يكن من أولئك الذين يطرقون لقصائد الحب بابا
ترعرع أبو فراس في كنف ابن عمه سيف الدولة في حلب، بعد موت والده باكراً، فشب فارساً شاعراً، وراح يدافع عن إمارة ابن عمه ضد هجمات الروم ويحارب الدمستق قائدهم ، ولأن الفروسية صنو الحب والوفاء كانت من أروع قصائده التي كتبها وهو في الأسر قصيدة، "اراك عصي الدمع"
قال فيها
وَفَيْتُ، وفي بعض الوَفاءِ مَذَلَّةٌ
ولكنه الفارس المغوار وشيمة الفارس الوفاء ولكن ذلك لم يمنعه ان يصيح فيمن غدرت به :

 لإنسانَةٍ في الحَيِّ شيمَتُها الغَدْر

الغدر آفة الآفات ...
لم يكن البيت الذي وضعته عنوانا دليلا أو رمزا على أقصى درجات الوفاء في الحب العاطفي فحسب بين الرجل والمرأة ، بل في جميع مناحي الحياة وبالتأكيد لا يصاب بأذى الوفاء ولوعته سوى المخلصين حتى النخاع الذين يؤلمهم تجرد الغير من المشاعر الإنسانية في اقل درجاتها خصوصا عندما يستمرئ الآخر إذلال إنسان كل ذنبه ما أغدقه عليه من حب عظيم ،
عندما  يعتبر الوفي ان الوفاء خلقا ودينا وديدنا بينما  يعتبره الآخر سبيلا للإذلال او لعبا على أوتار الأخلاق الأصيلة بين النبلاء والشرفاء.


ربما لم يعد للوصل طريق بين العرب اليوم،  بل ضاع الوصل والوفاء مع ضياع زمانه أعني زمان الأندلس ، لله درنا.... تضيع دول وأقاليم.... فكيف بمحبوب أو محبوبة كما صدح الشاعر :
يا زمان الوصل بالأندلس                           .....
لم يكن وصلك إلا حلما في ال....    كرى أو خلسة المختلس
حتى أصبح  الوصل حلما او خلسة وغادر أرض الواقع إلى غير رجعة ، ليس بفقدان الوصل عنوة او دون يد ، بل فقدانه بإرادة نافذة شيمتها الغدر ، أي مع سبق إصرار وترصد، فانقطاع الوصل بين المحبين بالموت أهون من انقطاعه بالغدر.
بعض الشعراء قد يختلف مع أبي فراس ومع ما أقنعنا به تعززا،  فقد ينعي الشعراء الآخرون على الذل في كل شيء الا في الحب فيجعلون التذلل للحبيب هو أسمى آيات المحبة والشعور وأعظم دليل على بلوغ الحب مداه، خصوصا وسط نظريات تلاشي الذات في سبيل الآخر.
 غير أن ابا فراس أبدع في قلب الصورة  ليعلن ان الخنوع في الحب لم يعد من صفات الفارس ولا الفروسية حيث ان بعض الوفاء مذلة ...
وليس ذلك فحسب بل يعظُم ظلم الغدر بقدر المعطيات والتضحيات التي يبذلها المحبوب لمن يحب، خصوصا لمن لا يدير الحب ومشاعره وحتى عطاءاته او تضحياته وسط سياسات المقاضاة أو حسابات المقايضة، أعني من يتقلد بشفافية وروحانية ونقاء شعار ان :
"المحبة عطاء" لا مكان للبخل فيها ولا المقايضة والمقابل ولا الأخذ وبالتأكيد ولا الغدر مع التسليم سلفا بان المشاعر تبادلية وليست موقع مقايضة، خصوصا ان البخل بالمشاعر هو أقسى درجات البخل.

ابو فراس يريدنا ان نعي درسا يتكرر في الحياة وينبهنا الى مغبة الانصياع للشعراء المتفيهقون الذين يشرعون ذل المحبوب لحبيبه، أبو فراس لا يريد أن يصبح المحبون ضحايا لأنهم بمعنى بسيط اتبعوا قاعدة مسلمات التبعية في ان "الشعراء يتبعهم الغاوون" دون تحكيم لعقولهم لأن الحب غالبا ما يديره الضعيف "القلب"

 ابو فراس الواصف نفسه بكل معاني الجسارة والقوة الشهامة والنبل والفروسية والقيادة في قوله :

وإني لجرار لكل كتيبة
 معودة ان لا يخل بها النصر

والذي لم يثنه اكتشاف غدر الكتائب الجرارة ، جر أذيال الخيبة في الحب... دون يد بفعل "غدر المحب" وهو أصعب ... عليه وهو القائل:

سَيَذْكُرُني قومي إذا جَدَّ جِدُّهُمْ،
وفي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ
يقول :
حَفِظْتُ وَضَيَّعْتِ المَوَدَّةَ بيْننا وأحْسَنُ من بعضِ الوَفاءِ لكِ العُذْرُ

 أعتقد أن من دقق في معاني ابي فراس سيؤمن بمبدأه  كيف لا وهو الأمير الفارس ، ولا يجرح الفارس أسره في المعركة قدر ما يجرحه أسر الحب لأنه استبداد آثم للبطولة والأبطال.

ولأنني عاشقة للشعر والشعراء كنت قد أوشكت أن أسلم عقلي لمن دعوا للتذلل ثم الذل، حتى كدت ان أراها مسلمات لا تقبل المناقشة كونه الحب والحبيب ....وكونني اعتقدت أن منتهى الوفاء في الشعور يشي بمنتهى الحب.
 ولكنني بعد جولتي مع "عصي الدمع"   اعترف انني تعرضت للغواية من قبل الشعراء المشاكسين الذين كانوا في كل واد يهيمهون ويقولون ما لا يفعلون.

جولتي في سجن وأسر الأمير الأسير "عصي الدمع" علمتني أن الحلبة كبيرة وأن عز العاشق بيده
فلا خير كما قال فى دفع الردى بمذلة،
حتى لو كان الليل هو الوحيد... شاهدا على ألم الفارس وضعف قوته وقلة حيلته أمام جبروت الحب كما في ...

بلى ، انا مشتاق وعندي لوعة
     ولكن مثلي لا يذاع له سر إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى     وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر إن مقاييس الوفاء يجب ألا تحكمها ذات المحب  المخلص بل
ان يجعل الآخر هو المقياس وان اضطر لتغييرعاداته الوفية المغدقة
خصوصا لمن كان وفاؤه  سببا لبلوغ حبيبه به منتهى الإذلال ...
 وهو الموصوف أيضا كفارسنا بالعزيز، عصي الدمع، خلائقه الكبر،  شيمته الصبر .

استدعوا عقولكم واحذروا الوفاء ففي بعضه مذلة أيها المحبين المخلصين المقيدين.....   
          فكّوا قيود أسركم .... فأنتم أمراء الوفاء وفرسانه لمن يستحق.

دوحــــــــــــة الثقـــــــافــــة

*مجلة عاصمة الثقافة
 يناير 2010

أتختلف دوحة الثقافة عن دوحة قطر؟
لأن اللغة كما تعلمون هي الأداة الرئيسة في كل ثقافة إذا أنها وعاء المعرفة فلقد طالعتنا لغتنا العربية التي نحتفي بعاصمة ثقافتها في قطر هذا العام  بفقه عظيم علمتنا فيه معاجمها الجمة أصول الكلمات والتراكيب واشتقاقاتها ، فتعلمنا كيف أن كلمة الثقافة مأخوذة  من ثقَّف الشيء  تثقيفاً أي :  سوَّاه، وهي تعني  تثقيف الشجر أي تهذيبه،  تثقيف الرمح، أي تقويمه.  كما تعني ثَقِفَ الكلام: حذقه وفهمه.ولم تكن العربية وحدها بل جاءت اللغات الأخرى ليأتي مصطلح culture [ثقافة] بالفرنسية من كلمة مشتقة من فعل colere اللاتيني الذي يعني، في الآن نفسه، "زرع" و"كرَّم". المعنى الأول لكلمة "ثقافة" بالإنجليزية أيضا  culture هو "زراعة" agri-culture: والمقصود هو زرعُ الأرض لإنتاج نباتات.
ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن اللغات أبدعت في معانيها إذا أن الثقافة زراعة خصبة ونتاج تحتاج لحصادها إلى تمازج وتهذيب وتثقيف.
والنتاج الخصب في أي حصاد رهن بعوامل عدة،  لذلك فإن المتمعن سيجد كيف واصلت اللغة إبداعها في الربط القرآني البارع في قوله تعالى:
"والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا"
إذ أن البلد الطيب تطيب مخرجاته في كل مناشط الحياة سواء كانت الفكرية أو الثقافية أو السياسية وغيرها.
ولا ضير على "الدوحة" فقد جاء فقه اللغة ليكمل هذا الإبداع في معاني عظيمة توجت معني العاصمة الخامسة عشرة للثقافة العربية لتكون هي "الدوحة" قلبا ومعنى.
فالدوحة اليوم وهي تحتضن ليست ذلك الموقع الجغرافي الذي يشكل بقعة من وطن عربي رحب مرت بعد سلسلة متتالية من العواصم،  إنها "الدوحة" فضلا عن الموقع، من استحقت، ما عناها به المعجم عندما عرفها ب:  الشجرة العظيمة المتشعبة ذات الفروع الممتدة.
وإذا كنا قد استهللنا بمعني الثقافة وكيف ربطتها المعاجم العربية واللاتينية في سلالاتها بالزراعة والنبات، فإن دوحة قطر قد اختزلت الثقافة ليس في نبت أو زرع تذروه الرياح بل في شجرة عظيمة ممتدة أصلها ثابت وتؤتي أكلها كل حين.
 "دوحة"  وارفة الظلال مزجت الإسهامات الفكرية البشرية بمختلف أقطابها ومشاربها لتعبر عما عنته حمدونة الأندلسية:
 حللنا دوحه ُفحنا علينا                   حنو المرضعات على الفطيم
ولأن الثقافة تعني الأخذ من كل علم بطرف فتلك هي" دوحة " الدوحة العاصمة  تشبعت جذورها ثقافة العرب وغيرها من الحضارات الممتزجة لتنتج فروعها الممتدة في كل مجالات الثقافة ولتعلن في عاصمتها أنها لن تقدم فنونا عربية فحسب بل ستكون ترجمة للعصور الذهبية في الفكر لتشكل في مضمونها تظاهرة ثقافية عالمية ، إذ أن قطر تؤمن أن الثقافة هي ذلك الكلُّ المركَّب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات. الكل الذي يختزل الوعي والمعرفة الإنسانية جلها في حركة من التأثر والتأثير لا تعرف الركود لأنها تؤمن أن وقوف الماء يفسده.
  ثقافة لا تتورع عن السياحة والحراك والنماء في تسامح واندماج عالمي متخذة ذلك ديدنها لتقدم للعالم كما جعلته في شعارها "الثقافة وطنا والدوحة عاصمة" لتحقق الرؤية التي عناها صاحب السمو أمير دولة قطر قائد المسيرة في أن تكون "الدوحة" عاصمة أبدية للثقافة.
ومن جعل الثقافة وطنا فإن الدوح بلا شك سيظل دوحا وعاصمة وظلالا وارفا للخصب الثقافي.
 أوليست الثقافة في اللغات ما يخرج نباتها، أو ليست الدوحة في المعجم  أعظم نباتها  .  
فأهلا بمن حل على الدوح من أقطاب الثقافة ومحبيها وروافدها الخصبة
خبر القائلين يا دوح في الظ     ***     ل بأن الهوى سقاك رجاله
  طابت "الدوحة" شجرة عظمية، وعاصمة ومستقرا ومقاما للجميع
    ولثقافة يخرج نباتها بإذن ربها.

                                                            

العواصم والإلهام الإبداعي

مجلة عاصمة الثقافة
فبراير - 2010
إذا كانت المنتوجات الثقافية  وليدة لإبداع ، فما هو الإبداع وما سره المكنون؟
هل نسلم بالإبداع كما جاء به - فرويد – من انه تنفيس عن صراع يعتمل داخل الشخصية، متمثلة في القمع والكبت المتطلع إلى أنواع شتى من السلوك أو كونه رغبة لم تجد تلبية لها في عالم الواقع، فانصرفت إلى عالم الخيال،  ليبدو تعويضاً عن غرض أدنى بغرض أسمى.
أم نسلم بما جاء به اتباع (فرويد)  من تطرف في تفسير الأعمال الإبداعية كما ذهب (إدلر) الى ان الإبداع تعويض عن (عقدة النقص) التي يعاني منها المبدع.  أو إنه لدى (يونغ) لاشعور جمعي متوارث، واحد عند جميع الناس.
 أم نتجاوز هذا وذاك لأن الإبداع مفهوم سام يتجاوز كل المكنونات الداخلية (الموهبة)  التي تلعب دورا كبيرا في الإبداع حتما إلى غيرها من العوامل التراكمية المتداخلة؟.
لا شك بأن الإبداع والإلهام رهن بعوامل عدة ليس فقط الموهبة التي حبا بها الله  البعض فحسب بل تتدخل عوامل أخرى ذاتية  وعوامل طبيعية لتقدم في ذلك او تؤخر، ليس على مستوى الأفراد فحسب بل وعلى مستوى الشعوب أيضا.

النفس الإيجابية تقدم عطاء لا محدودا في حالاتها  الإيجابية وحتى مع الكبت أو القمع ، والطبيعة الخلابة تلعب بلا شك دورها في صقل الإبداع،  فلو تزامن غنى هذه النفس وايجابياتها مع غنى الطبيعة لتمخض عن ذلك إبداعا مبهرا، لذلك تغبط الشعوب الفقيرة بيئيا ، الشعوب التي تنعم بمعطيات تضيف لعطائها في كافة المجالات.

ابن خلدون- رصد ذلك في مقدمته حيث تحدث عن  "طبائع العمران"- البلدان - وأثر ذلك على نفسيات البشر وإنتاجهم وثراء قرائحهم فكريا ، لذلك فهبة الطبيعة وما حبا بها الله بعضها  من الخضرة والماء والأنهار  والجبال والمناظر الريفية الخضراء الخلابة تؤثر ايجابيا في إنتاجية شعوبها إذ يغذي خصب الأرض الخصوبة الفكرية والخيالية لدى أبنائها فترق النفوس فيها وترق آدابها بها.
والقدماء عرفوا للطبيعة  دورها  على وجه الخصوص في تكوين الحالة الشعرية لدى الشعراء فتجسد مدى ما تعطيه تلك الطبيعة من مشاعر وأدوات تجعله يبدع في قصائده بمختلف اشكالها لذلك تختلف شخصية الشاعر من بيئة لأخرى وأثرها في القريحة الشعرية لديه والصور البديعية المستخدمة فيها .
ولكن هل النفس الإيجابية أو المعقدة كما ذهب فرويد هي مصدر الإبداع ، وهل تعد الطبيعة دائما عاملا محفزا ؟
 إيليا ابي ماضي على غير فرويد يبين أنه مهما تضافرت جماليات البيئة فإن النفس ومكنوناتها تعد أكبر العوامل في التأثير على الإبداع ولإنتاجية الفكرية ،
النفس الحزينة الكئيبة قد تحول حتى الطبيعة الجميلة  فتعكسها على خلاف جمالها لذلك قال:
          إن شر النفوس في الأرض نفس
                                                تتوخى قبل الرحيل رحيلا
          وترى الشوك في الورود وتعمى
                                                أن ترى الندى فوقها إكليلا
وهو هنا يعكس النظرة السلبية التي لا ترى الجمال في الجمال بل لا ترى منه سوى ما يعكر صفوه وان كان أقله.
والعكس لدى شعراء الصحاري، فلو سلمنا بنظرية إيليا نعود لمن لا يجدون أصلا في بيئتهم طبيعة نظرا لجدبها البيئي ،فهل تقف البيئات الصحراوية المجدبة عائقا أمام إبداعات شعوبها ؟ وهل الإبداع رهن البيئة فقط؟ الشاعر الأمير خالد الفيصل (دايم السيف)  عكس أجمل الصور في صحراء مجدبة :
سريت ليل الهوى لين انبلج نوره           امشي على الجدي وتسامرني القمرا
طعس وغدير وقمر ونجوم منثوره          وانفاس نجد بها جرح الدهر يبرا
الوصف عذبة والأعذب  منه انعكاس مكنون حب الشاعر وعشقه لأرضه وصحرائه القاحلة حتى جاءت أنفاسها لتبري جرح الدهر.

خلاصة القول أنه قد تغني عواصم ومدن ثراء قرائح شعوبها الفكرية والأدبية ولكن قد يخرج الإبداع أيضا من قعر البيئات المجدبة القاحلة أو رحم المعاناة  .
أولم تنتقل العواصم الثقافية من وطن إلى آخر ومن عاصمة إلى أخرى ومن بيئة إلى بيئة؟ 
 إنه إلهام لأمرين ، التنوع البيئي والتنوع البشري، لذلك لكل عاصمة مذاقها الفكري ، ولكل إ بداع لذته، المهم في كل ذلك التلاحم الفكري لأنه السمو الإبداعي لغنى العواصم مهما أجدبت طبيعتها.

البصمة الثقافية

*مجلة العاصمة
مارس- 2010
لكل عاصمة بصمتها الثقافية التي قد لا تجدها لا في المنارات الثقافية  المميزة لكل وطن ،  أو النقش المعماري أو التصاميم التراثية أو الشعبية بقدر ما تلمحها مقدما في شعوبها بالخصوصية المميزة التي تجعل لهم شكلا خاصا تلك هي الهوية وبصمتها الأولى هي اللغة.
لعلنا نطال عين الحقيقة إذا تهنا في بلاد المغرب العربي وكانت اللغة هي بوصلتنا الضالة او ضالتنا المنشودة ، خصوصا ان الفرق الطبيعي بين المغرب أو الأندلس أو فرنسا في الشكل او المظاهر الطبيعية التي حباها بها الخالق  ليست بذي شأن في الاختلافات في إقليم متقارب جغرافيا، بقدر ما يطلعك العامل الأهم عندما تحط رحالك في المقام الأول في مطارها قبل كل شيء ليصادفك أول  ترجمان وإدلاء حقيقي لتلك البصمة يفيدك بأنك في الدار البيضاء حتما المنتمية إلى العرق العربي لا  باريس.
تعددت الباريسات العربية ، وارتحلت بصمة العرب في كثير منها إلى صناعة باريس أخرى حتى أسبغت الثقافة عليها مسمى عاما هو وليد الانسلاخ الثقافي العربي  إلى الفرانكفونية، في خضم الفرنسة القسرية سلفا والطواعية الاختيارية لاحقا فتاهت معالم شعوب المليون شهيد وغيرهم ممن جاوروهم تحت طائلة التأثير الاستعماري الذي إن لم تطله الجغرافيا في نفوذها ، طالته اللغة واصبحت نائبته الأكثر نفوذا .
 وما يذهب على الفرنسة يذهب اليوم على عواصمنا الخليجية في الفرنجة أو الأمركة أو الأنجلونيه فتجدها مسميات نبيلة بدعوى التمدن والتحضر أو العولمة، وما الحضارة من فقدان البصمة بمكان ، وما قتل الهوية من قتل اللغة ببعيد لأنها قتل لإنسانية الإنسان في جغرافيته ومكانه وزمانه ، أو هي الاستعباد الجديد ، اوليست اللغة الأولى منعوتة عالميا بأنها لغة أم ، وويح للأم إذا ولدت لغيرها، إنها أكبر عقوبة وابنائها بين أحضانها.
في الخليج  ايضا وليس المغرب العربي فحسب ، تراجعت هويتنا لتعاني عواصمنا الاغتراب عن أول مكوناتها الثقافية وتبعتها الدول العربية الأخرى خصوصا بعدما تفنن الإنسان وهو آلة الثقافة ورمزها ومختزلها ومستودعها في التخلي عن بصمته لتفاجأ أنك أيضا لا تفرق ليس بين الدار البيضاء وباريس أو لندن بل وبين الدوحة أو المنامة ، خصوصا وانك لن يطالعك  ايفل ولن تحييك بج بن ولا مدام توسود قبل أن تطرق إذنك في مطاراتها لسان أقوامها لتدرك الفرق بين لندن  وباريس كونهم يمثلون ثقافات مختلفة ولغات تميز كل وطن عن الآخر ، أما  الدوحة ، والمنامة  فتحاذي زميلك ويحاذيك غيره لتشك سلفا أنك بين اثنين لا دوحة ولا منامة ولكن إما أن تكون في لندن أو واشنطن ، فالقوم قومنا ولكن البصمة ليست بصمتنا.

انسلخت اللغة فانسلخت بصمتنا فغدونا شعبا واحد أعجمي اللسان  ولكن حتى مع لهجاتنا أو عجمتنا فنحن أشكال وألوان، وستظل البصمة والهوية عاملا ينخر في ريادة عواصمنا وثباتها أما رياح الزحف لا القاري بل الثقافي حتى ذابت التجليات التي تميز امة عن أمة  فانطفأت منارة عظمية من منارات الثقافة ، لم تكن لتغنيها حتما احتفالات بعواصم أو معالم تراثية أو أغان فلكلوية ، تحولت فيها لغتها إلى برامج لتودع في معاجم او متاحف التاريخ .
الشاعر قال : ويجمعنا إذا اختلفت بلاد              بيان غير مختلف ونطق
والآخر يمجد أن:
              لسان الضاد يجمعنا            لقحطان وعدنان
فمن هم القحطانيون والعدنانيون أيها العرب ؟ أجزم أن الشاعر لو عاش إلى اليوم لغير رأيه ، بل وقوله وربما لسانه.
زوروا متاحف التاريخ العربي للتعرف على أشلاء متعددة وأوصال ممزقة فتت في عضد بصمة  كانت اجدر لتطبع خمس عشرة عاصمة خلت.
دامت بصمتنا شاهدا علينا ودمنا شهودا عليها.

                                     

ثـــــقافـــــة الحـــــــــبّ

*مجلة العاصمة
أبريل 2010 
أعترف أنني مجنونة بحبها ؟ هي قطر  ،
 ولست وحدي ... فحب الوطن هو تلك الخاصية المشتركة في الحب التي يشترك فيهات الغني والفقير ، الصغير والكبير ، إلى الدرجة التي كفر فيها بعض النقاد الشاعر عندما قال:
وطني لو شغلت بالخلد عنه         ***           نازعتني إليه في الخلد نفسي
خصوصا أولئك الذين يقيسون المعنى بحرفيته ولا يتجاوزونه إلى ما أبعد منه وهو الخيال. فالخيال هو بيت القصيد وهو لب الشعر في الأدب.
هذا الشاعر عاشق لوطنه ؟ ولا بد ان يعكس أعلى درجات الحب ، فيصور أنه حتى جنة الخلد لن تغنيه عن وطنه مجاوزة في البلاغة اللغوية ومبالغة فيها
خصوصا وان الشعر الخيالي في البلاغة العربية لا بد - في عرف النقاد-   أن يتسم بالكذب الذي اصبح رهنا للخيال فالنقاد القدماء  قالوا "أصدق الشعر أكذبه" ،
كما انتهى النقاد العالميين بعدهم إلى قاعدة "الفن للفن"، التي يعنون بها تجرد الفن للتعبير عما يراد نقله حتى لو تجرد من كل المعاني القيمية اذا كان الهدف هو إبراز هذا الفن،  لذلك ثار جدل عميق ما بين مؤيد ومعارض ممن أسمو الخيال إباحية الفن.
لكن المحبين  لن ينجحوا في شعرهم إلا بالمبالغة ، لذلك كان لا بد منهم أن يلونوا حبهم بالخيال الجانح حتى  يصل أقصى غايات التعبير خصوصا أمام حب  نقي خالص وهو حب الوطن ، ولن نخوض غمار أعظم حب شهده الشعر العربي في التوحد مع الذات الإلهية في الحب الإلهي  لدى رابعة العدوية وابن الفارض ، ولكننا نطرق حبا هو القاسم المشترك الأعظم بين البشرية جمعاء لا يرتبط بجغرافيا معينة ولا خطوط طول ولا دوائر عرض أو تضاريس، ولكنه هو الذي ينشأ في وجدان الإنسان له تضاريسه الخاصة  الدائمة وخارطته التي لا يتوه عنها لأنها مجسدة في ذاته كانعكاس المرآة، فهو محفور في القلب ، أصيل في الشعور والانتماء الذي يجري من الإنسان مجرى الدم، لذلك يرتبط بتلك العاطفة الشوق والحنين الأبدي خصوصا لأولئك الذين ذاقوا مرارة الغربة أو الاغتراب القسري عن أوطانهم ، حتى لو هاجروا وتجنسوا بغير جنسياتهم .
ولكن لننطلق نحو اثر الوطن والعواصم التي تسكن القلوب – على القلوب.
هل هناك عواصم حب وأخرى تنعت بغير ذلك؟
لا أظن ، لأن عاطفة الحب تنمو مع الوطن فيتشرب المرء به ، ولو اذكت عواصم طردا قسريا لأسباب أخرى، فلن يكون الوطن جغرافيا إلا وعاء للعودة مهما طال الاغتراب، ولكنه حقيقة هو ذلك الذي يعيش في ذاكرة الإنسان وقلبه مخترقا حدود الزمان والمكان، مُشكلاً وطنا داخل أوطان وإن تعددت.

ولكن:  هل تذكي بعض العواصم ثقافة الحب ؟ وتذكي غيرها غيره؟
 لا أعتقد والحديث له عدة محاور لأن الحب عاطفة قد تترعرع في أقسى البيئات والمواطن بل قد تجد نمائها اكبر في عز الأزمات والصراعات والحروب. لذلك عبر الشعراء في قصائدهم عن وطنهم عشقا له وأبدعوا في وصفه سواء  كان جنة خضراء أو صحراء قاحلة، صوروا حب الاحتراق والتيه في فيافيه.
فحب الوطن يغذيه العيش به ويذكيه البعد أيضا ، وتذكية أي أزمات أو  حروب أو صراعات أو تهديد  يمر به ، لذلك يهب كل منا لنجدة وطنه امام أي تهديد، بل يردد اسمه في كل محفل ، أولسنا نمثله ونعتز به في كل المناسبات، أوليس هو السؤال الذي يعقب أي سؤال عن اسمك ؟  بسؤالهم : من أي بلد أتيت؟.
الوطن هوية الإنسان وذاكرته ووجدانه وقلبه ، ولكن هل الحب ثقافة؟ وهل تخضع الأوطان لثقافة الحب ونظرياته المتعددة؟ أم إنه قاسم يشترك فيه الجميع كونه فطره ؟
وأخيرا ،
ما الشعور الذي طبعه احتضان كل وطن لعاصمة الثقافة على شعوبها؟
تلك الشجرة الدائحة  ترعرعت في عدد من العواصم وبلا شك كل اسم منها يشرف سمع قومه وبصرهم  ويدغدغ عواطفهم الجياشة تجاهه ويرسم ملامح الزهو والفخر بالإنجازات العظيمة له.
إن الاحتفاء باحتضان الوطن للعاصمة الثقافية والمشاركة الجمعية بها هو تعبير بليغ عن أقصى حالات الحب.
فمرحى للربع الثاني من فعاليات   "الدوحة" ...  عاصمة الحب.

"إن شاء الله" والصور النمطية

مجلة العاصمة               
مايو- 2010

"إن شــــــــــــــاء الـــلــــه"
قلتها ذات يوم أنا وزملائي من الأساتذة العرب  في حضور شخص أجنبي  نقابله للمرة الأولى  في مهمة عمل في الدوحة  ، وبنبرة الاستجابة العجلي لمضمون سؤاله أو طلبه أو دعوته  وبصوت فرح  تستشعر فيه قوة مخارج حروف الكلمة التي تعكس دون تردد تربية عربية إسلامية علمتنا أن كلمة إن شاء الله هي (انشا الله) بالعامية أي "حاضر استجبنا" و "نأمل بإذن الله"، ولكن فوجئت بمن يرانا للوهلة الأولى يدير رأسه ليسخر بلغته  الأم موشوشا لمن جاوره "انظر قالوا: إنشا الله" بالطبع لم أفهم ما قاله ، فقلت له عفوا هل تسألنا أمرا قال وبكل جرأة : لا ... بل أقول له : انظر.... لن يفعلوا لأنهم قالوا (إن شاء الله.)
بالتأكيد يسيئك هذا التفسير لا  لأن من أمامك يطعن في مصداقيتك ومن حولك بقدر ما يطعن في ثقافة دين وأمة وشعوب، فمصدر الاستياء هو تلك الصور النمطية الاعتباطية المكرسة عن العربي المنتمي إلى ثقافة إسلامية عريقة  خصوصا من يشوه ومن الوهلة الأولى بصنيعه هذا ثقافة أمة ، وعقيدة بنيت على احترام الآخر وفي الوقت ذاته تقدير واحترام خصوصياتها اللغوية ومضامين الإيمان بالقدر والقضاء الممتثلة فيها.

وفي كل ثقافة حتما هناك تعابير ومضامين ثقافية تختص بها ثقافة دون أخرى بما يطلق عليه "الخصوصيات الثقافية " والتي تقتضي من الآخر قبل وُلوجه إلى أي ثقافة أخرى أو هجرته المؤقته للعمل في ثقافة أخرى التثقف بها والتعايش معها واحترامها لا ازدرائها والتهكم بها على الملأ ، الأمر الذي يعكس بداية الجهل ومن ثم الغرور ومن ثم التعدي على حقوق الآخر، إذ أن الانتقال بين الشعوب لأي سبب من أسباب الهجرات يذكي نفعه والإفادة منه العلم وسعة الأفق وسعة الصدر أيضا لاحتواء الآخر في وعائه ، فالمكان ليس بقعة جغرافية بقدر ما هو قبل ذلك بقعة اجتماعية وتاريخية وثقافية  وبشرية اختزنت واختزلت عوامل عدة جديرة بالتقدير والاحترام .
ومن أقل الأمور التي يجب على المرء التثقف بها المصلحات أو المضامين اللغوية في كل ثقافة واحترام معانيها وجذورها الاجتماعية والتاريخية التي رسمت سياقها كحقيقة إما "لغوية عامة " أو "عرفية عامة" فكما تعلمون اللغات تنمي حقائق لغوية من خلال التاريخ ولحضارة والعرف  الخ.... ما يطرحه علم اللغويات مما أفاد به العالم اللغوي "نعوم تشومسكي " في الغرب،  أو المرحوم العالم العربي د "عبدالعزيز مطر ، طيب الله ثراه، في بحوث غنية حفلت بها المكتبات العربية لمن أراد الاستزادة من هذا البحر العميق.
بعض الكلمات مثل "إن شاء الله"  تعني في ثقافتها العربية الإسلامية ذات المضمون اللغوي الذي تعنيه كلمات أخرى و بذات القوة وفي ذات السياق السياق ولكن بأسلوب أكثر تأدبا استجابة على أي طلب أو سؤال،
وهي الكلمة  التي يربي عليها النشء وتعكس التلبية مع الاحترام والتقدير ، لذلك ربانا آباؤنا - ويربي كل منا ابناءه اليوم أيضا-  لا على ان يقول "حاضر" أو "نعم" أو ربما بالعامية "نزين" أ, حتى بالفرنجة "اوك"، فهذه الردود في دلالتها في الرد على الآباء تعتبر تقليلا لمكانتهم وانتقاصا من قدرهم واحترامهم ، لذلك تعلمنا منذ الصغر ألا نقول "حاضر" ولا "انزين" بل ينهرنا ويزجرنا الآباء على استخدامها ويحثونا  بقولهم قول "انشا الله" بنبرة قوية رصينة نترجمها حتما "نعم استجبت" .
الله سبحانه وتعالي قد رسم لنا مدلول الكلمة وأبعادها الإيمانية بالقضاء والقدر والتي لن يكون للإنسان يد فيها ذا ما تعطلت أو شلتها الظروف أو الأحداث أو الحوادث القسرية سواء كان ذلك في الثقافة الإسلامية أو الثقافة الغربية ، فالكون واحد ، والبشر تحكمهم ظروف قسرية أو قهرية أحيانا سواء كانوا في الشرق أو الغرب أو القطبين حتى لو جزم أحدهم  ب "حاضر" و "نعم" أو "اوك" أو  "داكور".
لذلك قال عز من قال " "ولا تقولن لشايء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله"
لذلك "انشا الله" تعني حتما "نحن فاعلون" وما فوق قدرتنا كأمة إسلامية يتجاوز الدلالة اللغوية التي يحاول البعض تنميطها في صورة سلبية ، فاللغة وعاء للحضارات ولكن صلب مادة الوعاء واحدة يحكمها جميعا ما يحكم الكون الذي قد يحجب أمرا جللا كرست له مئات "نعم وحاضر" وبكل اللغات.
فالحوار المتبادل واحترام الآخر يقتضي احتارم الخصوصيات الثقافية بما فيها الدلالت اللغوية لكي تنجح مساعي التحالف الأممي للحضارات والشعوب.

الترجمة والهيمنة الثقافية

*مجلة العاصمة
يونيو 2010

لا شك بأن الترجمة لعبت ولا زالت تلعب دور الريادة في تعزيز الحوار والفهم المتبادل بين الشعوب والحضارات ، ولعل الثقافات والإرث التاريخي العالمي والتراث المنقول لم يكن ليصل إلينا إلا من خلال حركة البحث العلمي والتدوين وما تبع تلك الحركة من اهتمام بالغ بالترجمة من والى اللغات الأخرى .
ولا شك بأن الوعاء الفكري الذي يحتضن الثقافات المتعددة لا بد وأن يؤثر ويتأثر بمضمون العمل المنقول ، خصوصا وإننا نلتمس ذلك جليا في كيفية تأثير وتأثر الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية قديما وتفاعل الحوار والاندماج الثقافي والتلاقح الفكري دون اعتبار لمصدر العمل المنقول سواء كان من الروم أو الفرس أو غيرها من الحضارات أو الشعوب على قاعدة إسلامية عريقة في أن "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها"
 وعزز ذلك العصر الذهبي بعد تدشين بيت الحكمة مما كان لع عظيم الأثر في ازدهار الحركة الفكرية في العالم الإسلامي في عصره الذهبي فضلا عن التأثر والإضافة والإثراء في ما ينقل عن العلوم الأخرى في ظل دورة طبيعية لتاريخ المعرفة ومسيرتها بالشكل الذي لا يلغي الآخر بل يضيف إليه.
 حتى لو حدث وأن نسب الآخر الوعاء له في حلته الجديدة تماما كما يحدث النقاش حادا بين ما اورده هنا  مثالا بسيطا ماديا لا معنويا (فكريا) على الوعاء  بغض النظر عن محتواه وذلك في طبق التبولة كسلطة والذي تأصله اللبنانيون ونسبة الاسرائيليون لهم ومن ثم اخذ أشكاله الجديدة في كل من اليونان والبرازيل وفقا للهجرات المختلفة  ... الخ ، ولكن معالم هويته ظلت واحدة وان اختلف الطعم قليلا بين بهار وآخر وبين زيت وغيره. .

ولعل هذا التأثر والتأثير حدا الباحثون إلى جعل كلمة "المثاقفة: رديفة للترجمة باعتبار اثر كل منهما ودوره التفاعلي كما  جاءت لدى الباحث الاجتماعي الفرنسي ميشال دوكستر (Michel de coster)  كونها "مجموع التفاعلات التي تحدث نتيجة شكل من أشكال الاتصال بين الثقافات المختلفة كالتأثير والتأثر والاستيراد والحوار والرفض والتمثل وغير ذلك مما يؤدي إلى ظهور عناصر جديدة في طريقة التفكير وأسلوب معالجة القضايا وتحليل الإشكاليات، مما يعني أن التركيبة الثقافية والمفاهيمية لا يمكن أن تبقى أو تعود بحال من الأحوال إلى ما كانت عليه قبل هذه العملية"(2).
وهذا ما تعززه عالميا عمليات التأثر والتأثير  ، لأن أي تراث منقول للغة الآخر لا بد وان يؤثر فيها، وهذا ما نلمسه بشكل أكبر في عالمنا اليوم ليس في ظل التعايش الحضاري والتنوع الثقافي الذي يقتبس ويضيف  فحسب  في أنماط الترجمة التقليدية المعهودة سابقا في دور الترجمة ، ولكن بما ولدته المعطيات العصرية الحديثة من وسائل المعرفة وأدوات الترجمة فيها التي لا تتلاقح فيها الثقافات أو تتحاور فحسب ولكنها - وهذا هو النبوغ الثقافي أو ما يسمى الهيمنة الثقافية -  تسيطر على المشهد الثقافي العالمي لبروز لغتها لغة للمعرفة لا بسبب تقديمها للمعرفة في وعاء لغاتها القومية كاللغة الإنجليزية التي اكتسحت كل اللغات في عالم العلم والمعرفة والتقنية ، بل والأكثر من ذلك في توفير كل إمكانات الترجمة في أي شكل من قوالب المعرفة التي تقدمها فلا تكاد تجد رواية ولا نصا ولا شعرا ولا بحثا ولا نصوص تقنية إلا وتجد ترجمانها،  بل وقبلها تم ابتكار آليات وأدوات ترجمتها التقنية والالكترونية الذاتية للمستخدم وهذا تمليك للفرد لأدوات المعرفة بلغتها ومن ثم هيمنتها.
وهذا هو التحدي الكبير الذي يواجه المثاقفة إذا سلمنا بها تلاقحا فكريا وليس كهيمنة فكرية .

لذلك ومما سبق فإن أهم عوامل الالتقاء بيننا كعواصم عربية للثقافة أن اللغة القومية الواحدة توحدنا وهي التي استغلتها الحضارة الإسلامية الزاهرة وأفادت منها، ولكن ما يفرقنا في تشكيل هذه الوحدة الثقافية في "المثاقفة" المتبادلة اليوم هو إننا حصرنا الترجمة فقط عند حدود العصر العباسي وتشبثنا بتاريخنا العظيم وقلنا "هذا أبي"، وحين انه جميل أن نفخر بإبائنا إلا اننا يجب ان نقول: "ها انا اذا " ،
  ولكن الانتقال التاريخي للمعرفة جعل الترجمة  تتخطى حدود الكتب بيمنا حصرنا أنفسنا بها ونسينا أو تغافلنا عن حقيقة مهمة وهي أن حركة الترجمة تتبع حركة المعرفة لذلك تخلفت آليات ترجماتنا عن تطور علومنا ، تغافلنا عن كونها مصطلح علمي ذي أبعاد واسعة طويلة المدى، تحتاج إلى أفق واسع يعي أهمية مجاراة عالم اليوم والمنافسة اللغوية في الوعاء الثقافي وتعزيز الترجمة الآلية ، والترجمة الرقمية الآنية في حركة تعريب مواكبة لتلك الحركة التي تمثل السطوة التقنية .
 فضلا عن أهمية ضرورة ايلاء عواصمنا الثقافية الأولوية لإنشاء مؤسسات الترجمة الحديثة وحسن تقدير تمويلها في موازناتها، وتنشيط تخصص الترجمة في جامعاتها وعدم هضمه في كليات الآداب فحسب ، وتقدير ودعم المترجمين وتقدير الترجمة كمهنة راقية في المجتمعات الواعية.

وإذا كان من المسلّم به أن الترجمة تساهم في تعزيز اللغة القومية ، لذلك يجب ألا تغيب عواصم ثقافتنا العربية عن اللحاق بالركب العالمي في عواصم الثقافة العالمية بكل أبعاد الاهتمام بالترجمة من وعن لغاتها الأم حتى تشهد ثمرات الاحتفاليات نتاجا قوميا عربيا يخدم الثقافة ويشجع المثافقة في حفظ اللغة القومية والتراث المعنوي إضافة إلى التلاقح الفكري.

الرياضة والثقافة

مجلة العاصمة              
 يوليو- 2010
ربما لم تنجح تظاهرة في تقريب الثقافات كما نجحت فيها الرياضة ممثلة في كأس العالم ، فهل تعد الرياضة وسيلة عظمى للتقارب والتثاقف بين الشعوب؟
بالتأكيد نعم.... فمن الملاحظ  أن كأس العالم هذا العام قد خلق فرصة ذهبية لا إلى التفاف الجماهير من كل حدب وصوب في بلد مضيف لتشجيع مباريات في كرة القدم فحسب ، ولا إلى  خلق فرصة لمعرفة الشعوب أو الدول المشاركة أو المستضيفة بأدق تفاصيلها فحسب،  بل إلى الالتقاء الشخصي  المتعولم  والاندماج الحضاري في جو عالمي  تضامنت فيه كل وسائل ورسائل الثقافة من  هوية الفرد ذاته إلى معالم ملبسه ولونه وعلمه... إلى الكلمة و القصيدة والأدب ،إلى الأغنية المحلية والدولية في لحنها وموسيقاها وكلماتها وأدائها بل وفي اجتماع  كل من يؤدي معناها الكوني الرسالة بكل اللغات العالمية من شعراء وأدباء ومثقفين وسياسيين وتجار و مغنين وموسيقيين ورياضيين تآلفوا في وحدة واحدة ليؤدوا أداءاً عالميا واحدا كلِّ بلغة قومه ولكن بمعنى واحد والهدف أن تصل رسالته لتخلق ثقافة الاحتواء العالمي في وعاء من الحب والمعرفة والتسامح.

تنافست فرق عالمية على بطولة كاس العالم ولكن الأهم من تنافسهم إننا نستحضر تاريخا عالميا مع الأرض الحاضنة ومع كل فريق يلعب وفي كل مباراة نجدها مناسبة لنخوض وأسرنا وأبناؤنا أو أصدقاؤنا وزملاؤنا حديثا ثقافيا حول حضارات وتاريخ تسطره معالم كأهرامات المكسيك وحضارة المايا والاستيك ، وزاهرة الدولة الأموية في حضارة الأندلس وقصورها ، والحصون البرتغالية وجزرها،  ونهر الأمازون وأنغام السامبا والسالسا، وبلاد المليون شهيد والعروبة ضد الفرنسة، وتاريخ الثورة الأمريكية  والسكان الأصليين من الهنود الحمر ، ودخول شعب المونديال وهو يقدم الركبي والبيس بول على  كرة القدم، وتاريخ البلاد التي لا تغيب عنها الشمس ومستعمراتها على امتداد العالم ، وحاضرة فينيس وبرج بيزا المائل .
كل هذه الصور الثقافية والتاريخية تتجسد معالمها في مباراة كرة قدم لا تحفل بالكرة وهي في المستطيل الأخضر فحسب بل تستنهض خلفها حضارات وهوية أمم وشعوب بل وتدخل السياسة أيضا ي خضم التظاهرات الرياضية خصوصا وان الاحتفاء يكمن في ذلك العلم الذي يلوح به المشجعون لا من مواطني الفريق الذي يشجع بلده  فسحب بل فيمن تجذّرت ثقافة الحب لديه للآخر وتغلغلت معاني العالمية لديه حتى بتنا في بيوتنا أثناء كأس العالم أمما في امة بل في أسرة واحدة بألوان متداخلة ومتعددة حفلت بكل ألوان الطيف ، لا نغضب ونحن متجاورون في اختلافات توجهاتنا وملابسنا الرياضية التي لا تفسد للود قضية وإن كان احدنا يلبس الأصفر أو الأخضر أو الأحمر أو الأزرق.
لا نستسلم إذا تقدمت قارة أو دولة ، المهم في المحصلة النهائية أن كرة القدم عالمية والأهم أنها خلقت مناسبة ثقافية تخطت الإقليمية إلى الكونية فكانت درسا في السياسة والتاريخ والجغرافيا والاجتماع والثقافة العامة إلى جانب الرياضة .

        إنها الثقافة ،،هي كل لا يتجزأ وهذه مناسباتها الكونية.

الأديان والانصهار الثقافي

*مجلة العاصمة
أغسطس- 2010

نحن أمم ولكن وحده ثقافية واحده ، نعم هذا ما يشعرنا به شهر رمضان العظيم ، الذي يضفي على الكون وحدة عالمية .
 هنا في الولايات المتحدة الأمريكية ونحن نمارس عباداتنا في هذا الشهر الفضيل  لا نلبث إلا أن نسمع ونحن في الأماكن العامة ) مبارك عليك) أو (رمضان كريم) ، إنها المشاركة الثقافية الواعية ،
 وبين ضيوفنا على المائدة الرمضانية  إخوان لنا من الديانة المسيحية أحبونا وأحببناهم ، شاركونا وشاركناهم ، سألونا هل نأتي للفطور قبل موعده لنحضر معكم الأذان ونصلي معكم صلاتكم الجماعية ؟
إنها الصلاة الروحانية التي تجمع الأمم على ثقافة واحدة وان اختلفت الأديان ، وتعد في ذاتها وسيلة للثاقف والتقارب بين الشعوب في الفكر والممارسات التي تسلمنا إلى ما هية الصيام ليس في الإسلام فحسب بل وطبيعة الصيام في الديانات الأخرى وندخل في تفاصيل ثقافة تنور عقولنا..
أينما أكون في نهار رمضان في الغربة ، احمل في يدي مصحفا صغيرا وانأ بين امة متعددة الديانات لأجد المصحف محط أنظار وتسأل سائله ، أنت تقرئين القران الكريم أليس كذلك؟ قلت : نعم إنها عبادة في عبادة أثناء الشهر الفضيل ، فتقول السائلة : انا مسيحية ولكنني اعرف انه الشهر المقدس لديكم واعرف أن القران هو الكتاب المقدس ولكنني لأول مرة في حياتي أرى مصحفا بهذا الحجم الصغير ؟ قلت: و هناك اصغر منه أيضا سهل لنا حمله وقراءته آناء الليل وإطراف النهار ، فضلا عن التحول التكنولوجي الذي حوله إلى مادة صوتية ومقرئوه على اصغر التقنيات المحمولة مثل (الهاتف المحمول) وأجهزة الآي بود.
ويسأل من حولنا : هل لديكم ترجمة للقرآن الكريم ككتاب؟ نعم لدينا وتلك هي المناسبة الكبرى لمعجزة الإسلام التي نزلت في ليلة القدر وعندها ندخل في تفاصيل الثقافة وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وندخل في نقاش جميل، والديانات مصدر خصب لثقافة خالدة لا تنتهي عبر العصور بل حضارة عريقة خلدت عبر التاريخ.
إن عبق استقبال شهر رمضان المبارك  يعيد الذاكرة إلى تحول هذه المناسبة الدينية مثلها مثل غيرها من المناسبات الإسلامية إلى ظواهر ثقافية إضافة إلى كونها ممارسات دينية ، حيث تعد أكثر الثقافات استيعابا من قبل المجتمعات والشعوب الأخرى ، مثل الحج وصيام رمضان وهما أركان أساسية من أركان الدين الإسلامي، وهاتان المناسبتان العظيمتان يرتبطان ارتباطا وثيقا بعيدين إسلاميين يشكل احدهما يوم الجائزة وهو عيد الفطر المبارك أما الآخر فيشكل عيد الأضحى الذي يمثل العيد الذي تقدم فيه الأضحية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بفداء الكبش عن  النبي إسماعيل ابن إبراهيم  رضي الله عنهما.
ورغم اختلاف بعض التفاسير المرتبطة بالديانات المختلفة كاختلاف التفسير في المفتدى عنه بين الديانتين الإسلامية واليهودية بين الأنبياء إسحاق وإسماعيل ابني النبي إبراهيم  ، إلا إن هذه المناسبات حتى في ظل اشتراك أو اختلاط التفسير الديني لها تخلط ترابطا حضاريا هو ذات الترابط الذي تمتد فيه الديانات السماوية إلى جذور واحدة .
وتعزز تناول قضايا ثقافية قد تكون في ظاهرها جدلية بين الديانات ، إلا أن الحقيقة العامة إن تلك المناسبات تعد وعيا امميا لا تستشعره في امتداد المعرفة بين الشرق والغرب والأمم المختلفة بقدر ما تستشعره في المشاركة الأممية للمجتمعات بعضهم البعض في هذه المناسبات خصوصا في تلك الدول التي يعيش فيها أطياف مختلفة من التركيبة السكانية بأعراقها ودياناتها المختلفة ، فضلا عن الأقليات السكانية في كل قطر ، والمهاجرين في الدول المختلفة، تلتمسها بداية  في المبادرة بالتهنئة برمضان من قبل غير المسلمين فضلا عن احتفائهم بمشاركة المسلمين في الإفطار والسحور بل وقراءة المصحف المترجم والكتب الدينية ، فضلا عن مشاركة المسلمين لغيرهم أيضا في التهنئة بأعيادهم حينما تجاوزت المناسبات مفهومها الضيق كممارسات دينية مختصرة على امة بعينها إلى مناسبة عامة عالمية ساعدت العولمة والنشر الالكتروني والثقافي على تعزيز هيمنتها الثقافية كظاهرة حتى أصبح رمضان على سبيل المثال هذا العام هو   (Trending Topic ) في أداة التواصل تويتير قبيل تحري هلال رمضان .
الديانات مصدر الامتداد الثقافي لأنها مرتبطة بالإيمان الواحد خصوصا في الديانات السماوية التي جاء محمد  (ص) في ختامها  قائلا: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"
رسالة ممتدة لأخلاق كونية سامية بثها الأنبياء وبعث (ص) الخاتم ليتمم المكارم التي تربت عليها البشرية على يد الأنبياء الذين خلقهم الله تعالي شعوبا وقبائل لتعارفوا،
والمشاركة الدينية هي قمة التعارف والتبادل الثقافي ، إنها بوتقة الانصهار والامتزاج الثقافي والإشعاع الحضاري .

المشهد السياسي وأثره على الثقافة


مجلة العاصمة              
 سبتمبر- 2010 

هل تعيش الثقافة بمعزل عن الساحة السياسية ؟
الإجابة حتما بالنفي فالثقافة في يومنا هذا – وللأسف- غدت ضحية للأحداث السياسية التي تؤثر سلبيا على مسيرة الإبداع عندما تجعله رهينة للخلافات العربية خصوصا وإننا ننشد في عواصم الثقافة الوحدة العربية الواحدة لا لأن العواصم عربية فحسب تلتقي في احتفالات سنوية ، بل لأن مكونات الثقافة التي تجمعنا واحدة وهي جزء لا يتجزأ من أي قطر ينبغي ألا تشرذمها وتفرقها الأحداث والأزمات، فالواقع الثقافي العربي يتطلب التكامل المشترك بين الثقافة العربية الواحدة بتكاملية لا خصوصية محلية.
إن رهن المؤسسات الثقافية لتترعرع في أحضان الحوادث السياسية فيه خطورة على الثقافة وتضحية بأمنها واستقرارها وارتقائها، إذ قد تستجيب مؤسسات ثقافية رائدة لأنظمة وحكومات بدعوى التبعية السياسية حين إننا نعلم أن الثقافة تقع شؤونها وشجونها خارج نطاق التسييس ، وإن كان لا بد من تأثير السياسة بمكان فهو ذلك التأثير الإيجابي المثري لا المحبط ذلك الذي نسميه انعكاس أثر التراث والتاريخ والحاضر المشترك الذي تعايشه دول الوطن العربي قاطبة ،
فلا قيمة للأعمال الأدبية والفنية والتراثية ولا إبداع يسجل إذا لم ترصد تلك الأعمال الحركات والأحداث السياسية والتاريخية ومسيرتها وآثارها المباشرة وغير المباشرة على الحياة العامة والفن والأدب وسائر مكونات الثقافة ووسائلها وأدواتها، ولكن لا يعني ذلك أن تخنق سياسات الدول حرية الثقافة والتعبير والرأي بشتى فنونه أو تحيد وتنحاز لفن دون آخر أو قطر دون آخر ، فهذا لعمري ما يضيع القيمة العظمي التي أنشئت من أجلها عواصم الفكر والإبداع.

لذلك فإنه حري  بالمؤسسات الثقافية والفكرية أن تستقل عن حضن الدول ورعايتها حتى لا تشوب معايير الحكم والالتقاء الفني والفكري شائبة الانحياز أو التطرف ، وحري بالحكومات أن تقدم لوزارات ومجالس الثقافة التي تخضع تحت مظلتها مساحة من السياحة والسباحة الفكرية ، سياحة تلغي فيها رسوم التأشيرات والجمارك والرقابة الصارمة التي تًخضع لها البضائع والأفراد ، سياحة تنزه الأدب عن تحمل تبعات الخلافات السياسية واستخدام الفنون ضريبة للمقايضة بين الدول والحكومات والطوائف والأعراق والحكام والرموز السياسية ، فالفن والثقافة يقعان ضمن عاصمة كونية اختارت أن تسبح في الفضاء الكوني يحلق فيها العمل الإبداعي في سماء عالية تتجاوز تأشيرات الدخول وتتعايش في قلوب وعقول الأمم لتشكل في النهاية ذلك الامتزاج المتكامل عالميا ليعيش عمل ٌفي عقولنا وذاكرتنا وقلوبنا سواء كان من إبداع الزمان الغابر أو الحاضر وليعيش كاتبٌ في مخيلتنا حيا وان مرت على دفن رفاته سنون عدة ، فالثقافة وطن عامر للأبد في خلد البشرية.

الثقافة عابرة الحدود والقارات...

مجلة العاصمة             
أكتوبر- 2010

لن نتحدث حتما عن مفعول الكلمة والحرف مسطرا في حركة التأليف ذاتها التي تعبر بمعناها وسحرها حتما الحدود والقارات،   ولكن تأتي اليوم الثورة الرقمية والانفجار المعرفي بل وتكتسح وسائل التواصل الاجتماعي كل الحدود لتسبح الثقافة في سماء حرة يعلم من في الشرق ما هو في الغرب قبل ان يرتد الى الإنسان طرفه ولكن بضغطة زر واحده على الشاشة الرقمية .
هذه الميزة لم تضفِ ارتقاء ثقافيا للمعرفة العامة فحسب بل المعارف العلمية  والمهنية والبحثية التي طورت العلم ويسّرته بل وحتى وادوات التواصل الاجتماعية المباشرة السريعة.
المتنبي صدح قائلا "وخير جليس في الزمان كتاب" صدق القول ولكن تعددت أشكال الكتب  إلى الرقمية  فعلى مستوى أثرها على الثقافة العامة لم يعد كتابا ليمنع من النشر ، فقد "قطعت جهيزة قول كل خطيب" كما يقول المثل العربي ، و جهيرة اليوم هي أدوات النشر الإلكتروني التي تسهل وتعزز بلا شك - في بروتوكولات ومعايير نشر متعارفة-  نشر كل جديد ، هذا في إطار النشر الذي يتمتع بمساحة حرية أكبر على المستوى السيبرنتي.

أما في إطار الانتشار المعرفي وتسهيل القراءة فإنه لم يعد الكتاب رهينا للورق بل دخل ميدان الآليات التقنية التنافسي حتى باتت الكتب مخزنة في مساحة صغيرة على ملفات خاصة بالكتب أو أجهزة الهواتف المحمولة وما شابهها في تنافس رقمي يومي لن نقول "محموم" بل حميم ، يختزل عمرا طويلا كانت الثقافة تخضع لعامل الوقت والمادة فيه قسرا وسط وسيط الدواة و الكتب المنشورة ومن خلال دور الكتب والمعارض الترويجية .
 ولكن لم يدرٍ المتنبي وهو راقد في قبره ان الكتب  وهي "خير جليس" تحتاج إلى تعريب لتدخل حيز اعز مكان في الدنى. "الحيز الرقمي"
فالثقافة الإلكترونية مصطلح جديد في أبجديات الشعوب بعد أن تحول كل شيء إلى الحالة الرقمية، ربما تطال ما سنأكل أيضا  بعد أن نجحت شبكة الإنترنت في تغيير وجه الحياة  والعالم والكون بأسره في موجه أسموها رقمية أو سيبرنتية أو ثالثة  أو خامسة أو حتى عاشرة أو ربما ضوئية .
 المهم في ذلك كله إن الثقافة العربية في التحدي عابر القارات نتمناها ألا تظل حبيسة الموجة الأولى ولا حتى الثانية لأننا يجب أن نجاري التطور الرقمي إن لم نسابق، خصوصا وإننا لا زلنا متأخرين في المحتوى الإلكتروني العربي على الانترنت الذي  يقتضي تطور تقنيات المعالجة والحلول للنص العربي، ضمن لغة ترميز النص الحي والترجمة الحية التقنية، والتعرف الآلي الضوئي على النصوص، والتحليل الصرفي، والبحث واسترجاع النصوص وتطوير المتصفحات العربية ووسائل تحرير النشر العربي في برامج بحث عربية .
لقد تفوقت وسائل البحث العالمية في تسهيل وتيسير النشر الإلكتروني العربي حتى في آخر ما صدر منها في تشكيل النصوص فيما طرح في "غوغل تشكيل" عوضا عما يتجرعه أتباع سيبويه ونحوه وصرفه في مدارس اللغة ، فنتمنى ان يكون عام عاصمة ثقافة قطر عاما مغدقا على  محتوى النشر العربي السيبرنتي وعلى الثقافة العربية عابرة القارات.

التحدَّي الثَقافي العالَمي ..

*مجلة العاصمة                
نوفمبر - 2010

لا ينتظر أحدنا كثيرا اليوم حتى يجد ضالته البحثية والثقافية والعلمية بضغطة زر واحدة على أي من محركات البحث العالمية على الانترنت التي حشدت كل أطياف المعرفة في نطاقات دولية تصلنا عبر الأجهزة أو الهواتف الثابتة والمحمولة .

وإذا كانت محركات البحث العالمية قد يسرت كافة الخدمات العلمية والبحثية والاتصالات وما إلى ذلك من تحديد مسارات الخرائط والمواقع والأفراد فإننا في الواقع مدينون  لها هذه الخدمات التي لم تعط ِالعذر لأحد في عالم اليوم أن يسير خلف الركب خصوصا في الدول التي يعتبر حمل الأجهزة التقنية لدى أبنائها ترفا قد لا يفيد منه أفراده ألا بما يتحه من التواصل الاجتماعي أو الدردشة التي لا تضيف سوى الوصل والالتقاء الذي قد يكون بعضه سطحيا وهامشيا، حين يغض الكثير من المستخدمين الطرف عن استخدامات جليلة وضعت هذه الإمكانات وسخرت لها .

عندما احتفل محرك البحث الشهير "جوجل"  يوم 16 أكتوبر 2010  بذكرى  ميلاد أمير الشعراء أحمد شوقي، وذلك  باستبدال الشعار الخاص بالمحرك بشعار آخر لغوغل يحمل بيت شعر لأمير الشعراء  في حب الوطن :
" وطني لو شٌغلت بالخلد عنه ..      نازعتني إليه في الخلد نفسي" .

قادنا إلى التفكير في عظمة وأهمية محركات البحث في المشهد الثقافي العربي  بل ضرورة دخول المنافسة العالمية في مجال النشر والبحث الإلكتروني ، وإذا كانت غوغل  ضمن سياستها  في اكتساب وحيازة جمهور الشرق الأوسط  خصوصا بعد طرحها الكثير من خدمات التعريب والترجمة والتشكيل اللغوي ، فإنها هنا بعيون الشعر والشعراء العرب تدخل في صميم القلب والوجدان العربي وصميم مناسباته الثقافية التي نتمنى أن تنتهز إحيائها كل عاصمة ليس فقط في برامج العواصم الاحتفالية ، بل ببرامج  تقنية ورقمية مستمرة سنوية تحسن استخدام الوسائل العالمية في اتفاقيات ثقافية لتضم شوقي وغيره من مبدعي الأدب العربي في الصدارة في أوسع نطاقات المعرفة استخداما وذلك بوضع كنوزهم في المحتوى العربي لا شعرا فحسب بل نقدا وتحليلا ، حيث إنه مع الأجيال العربية الرقمية الجديدة لن يجدي شوقي ولا روائع الأدب العربي وعيون قصائده  ان تظل حبيسة أرفف المكتبات ولا يغني أن تترك رهينة منتديات أو أفراد هواة ليغذوا الساحة بها فقط ولكن بل لا بد وان ينتج العرب أدواتهم ويخضعوا رصيدهم وتراثهم الزاخر  إلى التحول الرقمي وهو الرصيد الغني وذلك في مشروع ثقافي رقمي معتمد نتمنى ان تتبناه عاصمة من العواصم.
وإذا كان الشعراء سابقا يعلقون المطولات الشعرية على جدار الكعبة التي سميت بالمعلقات بناء على ذلك فإن الزمن الآتي يقاس بالسرعة الضوئية وبمدى الحضور الالكتروني على نطاق ساحة المعرفة السيبرنتية التي تتنافس لا في مقدار ما هو موجود ونوعه فحسب بل في طريقة عرضة واستحوذا المستخدمين بتحقيق رقم قياسي في الدخول على محتواه وهذا يعزز الحاجة إلى تعددية لغات ما ينشر من تراجم لعيون الشعر العربي أيضا .
نكاد أن نجزم بأن أبناءنا  بغوغل وعوا وعيا اكبر بقصيدة شوقي ، وعيا جعلهم يرتادون غوغل ليبحثوا عن سر وضعها بيت شوقي مرادفا شعارها البحثي بمناسبة ميلاده فكان ذلك سبيلا لفرحة بتقلد مرابع الثقافة الجديدة الأدوات الدولية بعد ان وارى كتبها الغبار في الأرفف العربية .
جميل إذا أن يشهد بها الآخر حتى لو أرادت غوغل منافسة خصومها في استحواذ سوق البحث السيبرنتي العربي ، أوليست هي التي بسبب كسبها سوق المنافسة شاع لدى المستخدمين والباحثين والجمهور  لها كلمة : Google  it والتي تعني بالعربية : غوغله ...أي ابحث في غوغل  إن صح لنا تعريب المصطلح الجديد.
هذا شعار العالم اليوم يوم أن ارتادت وتفوقت غوغل على مختلف مواقع البحث ، ليس من قليل إنها علمت كيف تستقطب الآخر من كل الثقافات في سياساتها، والدور لمراكز العرب الثقافية  لتكون وعاء لثقافتها وغيرها  كما كانت في حاضرة الدولة الإسلامية ولكن اليوم وفق احدث النظم وبطريقة غير تقليدية.