الجمعة، 6 أبريل 2012

الترجمة والهيمنة الثقافية

*مجلة العاصمة
يونيو 2010

لا شك بأن الترجمة لعبت ولا زالت تلعب دور الريادة في تعزيز الحوار والفهم المتبادل بين الشعوب والحضارات ، ولعل الثقافات والإرث التاريخي العالمي والتراث المنقول لم يكن ليصل إلينا إلا من خلال حركة البحث العلمي والتدوين وما تبع تلك الحركة من اهتمام بالغ بالترجمة من والى اللغات الأخرى .
ولا شك بأن الوعاء الفكري الذي يحتضن الثقافات المتعددة لا بد وأن يؤثر ويتأثر بمضمون العمل المنقول ، خصوصا وإننا نلتمس ذلك جليا في كيفية تأثير وتأثر الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية قديما وتفاعل الحوار والاندماج الثقافي والتلاقح الفكري دون اعتبار لمصدر العمل المنقول سواء كان من الروم أو الفرس أو غيرها من الحضارات أو الشعوب على قاعدة إسلامية عريقة في أن "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها"
 وعزز ذلك العصر الذهبي بعد تدشين بيت الحكمة مما كان لع عظيم الأثر في ازدهار الحركة الفكرية في العالم الإسلامي في عصره الذهبي فضلا عن التأثر والإضافة والإثراء في ما ينقل عن العلوم الأخرى في ظل دورة طبيعية لتاريخ المعرفة ومسيرتها بالشكل الذي لا يلغي الآخر بل يضيف إليه.
 حتى لو حدث وأن نسب الآخر الوعاء له في حلته الجديدة تماما كما يحدث النقاش حادا بين ما اورده هنا  مثالا بسيطا ماديا لا معنويا (فكريا) على الوعاء  بغض النظر عن محتواه وذلك في طبق التبولة كسلطة والذي تأصله اللبنانيون ونسبة الاسرائيليون لهم ومن ثم اخذ أشكاله الجديدة في كل من اليونان والبرازيل وفقا للهجرات المختلفة  ... الخ ، ولكن معالم هويته ظلت واحدة وان اختلف الطعم قليلا بين بهار وآخر وبين زيت وغيره. .

ولعل هذا التأثر والتأثير حدا الباحثون إلى جعل كلمة "المثاقفة: رديفة للترجمة باعتبار اثر كل منهما ودوره التفاعلي كما  جاءت لدى الباحث الاجتماعي الفرنسي ميشال دوكستر (Michel de coster)  كونها "مجموع التفاعلات التي تحدث نتيجة شكل من أشكال الاتصال بين الثقافات المختلفة كالتأثير والتأثر والاستيراد والحوار والرفض والتمثل وغير ذلك مما يؤدي إلى ظهور عناصر جديدة في طريقة التفكير وأسلوب معالجة القضايا وتحليل الإشكاليات، مما يعني أن التركيبة الثقافية والمفاهيمية لا يمكن أن تبقى أو تعود بحال من الأحوال إلى ما كانت عليه قبل هذه العملية"(2).
وهذا ما تعززه عالميا عمليات التأثر والتأثير  ، لأن أي تراث منقول للغة الآخر لا بد وان يؤثر فيها، وهذا ما نلمسه بشكل أكبر في عالمنا اليوم ليس في ظل التعايش الحضاري والتنوع الثقافي الذي يقتبس ويضيف  فحسب  في أنماط الترجمة التقليدية المعهودة سابقا في دور الترجمة ، ولكن بما ولدته المعطيات العصرية الحديثة من وسائل المعرفة وأدوات الترجمة فيها التي لا تتلاقح فيها الثقافات أو تتحاور فحسب ولكنها - وهذا هو النبوغ الثقافي أو ما يسمى الهيمنة الثقافية -  تسيطر على المشهد الثقافي العالمي لبروز لغتها لغة للمعرفة لا بسبب تقديمها للمعرفة في وعاء لغاتها القومية كاللغة الإنجليزية التي اكتسحت كل اللغات في عالم العلم والمعرفة والتقنية ، بل والأكثر من ذلك في توفير كل إمكانات الترجمة في أي شكل من قوالب المعرفة التي تقدمها فلا تكاد تجد رواية ولا نصا ولا شعرا ولا بحثا ولا نصوص تقنية إلا وتجد ترجمانها،  بل وقبلها تم ابتكار آليات وأدوات ترجمتها التقنية والالكترونية الذاتية للمستخدم وهذا تمليك للفرد لأدوات المعرفة بلغتها ومن ثم هيمنتها.
وهذا هو التحدي الكبير الذي يواجه المثاقفة إذا سلمنا بها تلاقحا فكريا وليس كهيمنة فكرية .

لذلك ومما سبق فإن أهم عوامل الالتقاء بيننا كعواصم عربية للثقافة أن اللغة القومية الواحدة توحدنا وهي التي استغلتها الحضارة الإسلامية الزاهرة وأفادت منها، ولكن ما يفرقنا في تشكيل هذه الوحدة الثقافية في "المثاقفة" المتبادلة اليوم هو إننا حصرنا الترجمة فقط عند حدود العصر العباسي وتشبثنا بتاريخنا العظيم وقلنا "هذا أبي"، وحين انه جميل أن نفخر بإبائنا إلا اننا يجب ان نقول: "ها انا اذا " ،
  ولكن الانتقال التاريخي للمعرفة جعل الترجمة  تتخطى حدود الكتب بيمنا حصرنا أنفسنا بها ونسينا أو تغافلنا عن حقيقة مهمة وهي أن حركة الترجمة تتبع حركة المعرفة لذلك تخلفت آليات ترجماتنا عن تطور علومنا ، تغافلنا عن كونها مصطلح علمي ذي أبعاد واسعة طويلة المدى، تحتاج إلى أفق واسع يعي أهمية مجاراة عالم اليوم والمنافسة اللغوية في الوعاء الثقافي وتعزيز الترجمة الآلية ، والترجمة الرقمية الآنية في حركة تعريب مواكبة لتلك الحركة التي تمثل السطوة التقنية .
 فضلا عن أهمية ضرورة ايلاء عواصمنا الثقافية الأولوية لإنشاء مؤسسات الترجمة الحديثة وحسن تقدير تمويلها في موازناتها، وتنشيط تخصص الترجمة في جامعاتها وعدم هضمه في كليات الآداب فحسب ، وتقدير ودعم المترجمين وتقدير الترجمة كمهنة راقية في المجتمعات الواعية.

وإذا كان من المسلّم به أن الترجمة تساهم في تعزيز اللغة القومية ، لذلك يجب ألا تغيب عواصم ثقافتنا العربية عن اللحاق بالركب العالمي في عواصم الثقافة العالمية بكل أبعاد الاهتمام بالترجمة من وعن لغاتها الأم حتى تشهد ثمرات الاحتفاليات نتاجا قوميا عربيا يخدم الثقافة ويشجع المثافقة في حفظ اللغة القومية والتراث المعنوي إضافة إلى التلاقح الفكري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق