الجمعة، 6 أبريل 2012

وَفَيْتُ، وفي بعض الوَفاءِ مَذَلَّةٌ

الشرق       
 يونيو  2011

أبو فراس الحمداني لم يكن من أولئك الذين يطرقون لقصائد الحب بابا
ترعرع أبو فراس في كنف ابن عمه سيف الدولة في حلب، بعد موت والده باكراً، فشب فارساً شاعراً، وراح يدافع عن إمارة ابن عمه ضد هجمات الروم ويحارب الدمستق قائدهم ، ولأن الفروسية صنو الحب والوفاء كانت من أروع قصائده التي كتبها وهو في الأسر قصيدة، "اراك عصي الدمع"
قال فيها
وَفَيْتُ، وفي بعض الوَفاءِ مَذَلَّةٌ
ولكنه الفارس المغوار وشيمة الفارس الوفاء ولكن ذلك لم يمنعه ان يصيح فيمن غدرت به :

 لإنسانَةٍ في الحَيِّ شيمَتُها الغَدْر

الغدر آفة الآفات ...
لم يكن البيت الذي وضعته عنوانا دليلا أو رمزا على أقصى درجات الوفاء في الحب العاطفي فحسب بين الرجل والمرأة ، بل في جميع مناحي الحياة وبالتأكيد لا يصاب بأذى الوفاء ولوعته سوى المخلصين حتى النخاع الذين يؤلمهم تجرد الغير من المشاعر الإنسانية في اقل درجاتها خصوصا عندما يستمرئ الآخر إذلال إنسان كل ذنبه ما أغدقه عليه من حب عظيم ،
عندما  يعتبر الوفي ان الوفاء خلقا ودينا وديدنا بينما  يعتبره الآخر سبيلا للإذلال او لعبا على أوتار الأخلاق الأصيلة بين النبلاء والشرفاء.


ربما لم يعد للوصل طريق بين العرب اليوم،  بل ضاع الوصل والوفاء مع ضياع زمانه أعني زمان الأندلس ، لله درنا.... تضيع دول وأقاليم.... فكيف بمحبوب أو محبوبة كما صدح الشاعر :
يا زمان الوصل بالأندلس                           .....
لم يكن وصلك إلا حلما في ال....    كرى أو خلسة المختلس
حتى أصبح  الوصل حلما او خلسة وغادر أرض الواقع إلى غير رجعة ، ليس بفقدان الوصل عنوة او دون يد ، بل فقدانه بإرادة نافذة شيمتها الغدر ، أي مع سبق إصرار وترصد، فانقطاع الوصل بين المحبين بالموت أهون من انقطاعه بالغدر.
بعض الشعراء قد يختلف مع أبي فراس ومع ما أقنعنا به تعززا،  فقد ينعي الشعراء الآخرون على الذل في كل شيء الا في الحب فيجعلون التذلل للحبيب هو أسمى آيات المحبة والشعور وأعظم دليل على بلوغ الحب مداه، خصوصا وسط نظريات تلاشي الذات في سبيل الآخر.
 غير أن ابا فراس أبدع في قلب الصورة  ليعلن ان الخنوع في الحب لم يعد من صفات الفارس ولا الفروسية حيث ان بعض الوفاء مذلة ...
وليس ذلك فحسب بل يعظُم ظلم الغدر بقدر المعطيات والتضحيات التي يبذلها المحبوب لمن يحب، خصوصا لمن لا يدير الحب ومشاعره وحتى عطاءاته او تضحياته وسط سياسات المقاضاة أو حسابات المقايضة، أعني من يتقلد بشفافية وروحانية ونقاء شعار ان :
"المحبة عطاء" لا مكان للبخل فيها ولا المقايضة والمقابل ولا الأخذ وبالتأكيد ولا الغدر مع التسليم سلفا بان المشاعر تبادلية وليست موقع مقايضة، خصوصا ان البخل بالمشاعر هو أقسى درجات البخل.

ابو فراس يريدنا ان نعي درسا يتكرر في الحياة وينبهنا الى مغبة الانصياع للشعراء المتفيهقون الذين يشرعون ذل المحبوب لحبيبه، أبو فراس لا يريد أن يصبح المحبون ضحايا لأنهم بمعنى بسيط اتبعوا قاعدة مسلمات التبعية في ان "الشعراء يتبعهم الغاوون" دون تحكيم لعقولهم لأن الحب غالبا ما يديره الضعيف "القلب"

 ابو فراس الواصف نفسه بكل معاني الجسارة والقوة الشهامة والنبل والفروسية والقيادة في قوله :

وإني لجرار لكل كتيبة
 معودة ان لا يخل بها النصر

والذي لم يثنه اكتشاف غدر الكتائب الجرارة ، جر أذيال الخيبة في الحب... دون يد بفعل "غدر المحب" وهو أصعب ... عليه وهو القائل:

سَيَذْكُرُني قومي إذا جَدَّ جِدُّهُمْ،
وفي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ
يقول :
حَفِظْتُ وَضَيَّعْتِ المَوَدَّةَ بيْننا وأحْسَنُ من بعضِ الوَفاءِ لكِ العُذْرُ

 أعتقد أن من دقق في معاني ابي فراس سيؤمن بمبدأه  كيف لا وهو الأمير الفارس ، ولا يجرح الفارس أسره في المعركة قدر ما يجرحه أسر الحب لأنه استبداد آثم للبطولة والأبطال.

ولأنني عاشقة للشعر والشعراء كنت قد أوشكت أن أسلم عقلي لمن دعوا للتذلل ثم الذل، حتى كدت ان أراها مسلمات لا تقبل المناقشة كونه الحب والحبيب ....وكونني اعتقدت أن منتهى الوفاء في الشعور يشي بمنتهى الحب.
 ولكنني بعد جولتي مع "عصي الدمع"   اعترف انني تعرضت للغواية من قبل الشعراء المشاكسين الذين كانوا في كل واد يهيمهون ويقولون ما لا يفعلون.

جولتي في سجن وأسر الأمير الأسير "عصي الدمع" علمتني أن الحلبة كبيرة وأن عز العاشق بيده
فلا خير كما قال فى دفع الردى بمذلة،
حتى لو كان الليل هو الوحيد... شاهدا على ألم الفارس وضعف قوته وقلة حيلته أمام جبروت الحب كما في ...

بلى ، انا مشتاق وعندي لوعة
     ولكن مثلي لا يذاع له سر إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى     وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر إن مقاييس الوفاء يجب ألا تحكمها ذات المحب  المخلص بل
ان يجعل الآخر هو المقياس وان اضطر لتغييرعاداته الوفية المغدقة
خصوصا لمن كان وفاؤه  سببا لبلوغ حبيبه به منتهى الإذلال ...
 وهو الموصوف أيضا كفارسنا بالعزيز، عصي الدمع، خلائقه الكبر،  شيمته الصبر .

استدعوا عقولكم واحذروا الوفاء ففي بعضه مذلة أيها المحبين المخلصين المقيدين.....   
          فكّوا قيود أسركم .... فأنتم أمراء الوفاء وفرسانه لمن يستحق.

هناك تعليق واحد: