مجلة عاصمة الثقافة
فبراير - 2010
إذا كانت المنتوجات الثقافية وليدة لإبداع ، فما هو الإبداع وما سره المكنون؟
هل نسلم بالإبداع كما جاء به - فرويد – من انه تنفيس عن صراع يعتمل داخل الشخصية، متمثلة في القمع والكبت المتطلع إلى أنواع شتى من السلوك أو كونه رغبة لم تجد تلبية لها في عالم الواقع، فانصرفت إلى عالم الخيال، ليبدو تعويضاً عن غرض أدنى بغرض أسمى.
أم نسلم بما جاء به اتباع (فرويد) من تطرف في تفسير الأعمال الإبداعية كما ذهب (إدلر) الى ان الإبداع تعويض عن (عقدة النقص) التي يعاني منها المبدع. أو إنه لدى (يونغ) لاشعور جمعي متوارث، واحد عند جميع الناس.
أم نتجاوز هذا وذاك لأن الإبداع مفهوم سام يتجاوز كل المكنونات الداخلية (الموهبة) التي تلعب دورا كبيرا في الإبداع حتما إلى غيرها من العوامل التراكمية المتداخلة؟.
لا شك بأن الإبداع والإلهام رهن بعوامل عدة ليس فقط الموهبة التي حبا بها الله البعض فحسب بل تتدخل عوامل أخرى ذاتية وعوامل طبيعية لتقدم في ذلك او تؤخر، ليس على مستوى الأفراد فحسب بل وعلى مستوى الشعوب أيضا.
النفس الإيجابية تقدم عطاء لا محدودا في حالاتها الإيجابية وحتى مع الكبت أو القمع ، والطبيعة الخلابة تلعب بلا شك دورها في صقل الإبداع، فلو تزامن غنى هذه النفس وايجابياتها مع غنى الطبيعة لتمخض عن ذلك إبداعا مبهرا، لذلك تغبط الشعوب الفقيرة بيئيا ، الشعوب التي تنعم بمعطيات تضيف لعطائها في كافة المجالات.
ابن خلدون- رصد ذلك في مقدمته حيث تحدث عن "طبائع العمران"- البلدان - وأثر ذلك على نفسيات البشر وإنتاجهم وثراء قرائحهم فكريا ، لذلك فهبة الطبيعة وما حبا بها الله بعضها من الخضرة والماء والأنهار والجبال والمناظر الريفية الخضراء الخلابة تؤثر ايجابيا في إنتاجية شعوبها إذ يغذي خصب الأرض الخصوبة الفكرية والخيالية لدى أبنائها فترق النفوس فيها وترق آدابها بها.
والقدماء عرفوا للطبيعة دورها على وجه الخصوص في تكوين الحالة الشعرية لدى الشعراء فتجسد مدى ما تعطيه تلك الطبيعة من مشاعر وأدوات تجعله يبدع في قصائده بمختلف اشكالها لذلك تختلف شخصية الشاعر من بيئة لأخرى وأثرها في القريحة الشعرية لديه والصور البديعية المستخدمة فيها .
ولكن هل النفس الإيجابية أو المعقدة كما ذهب فرويد هي مصدر الإبداع ، وهل تعد الطبيعة دائما عاملا محفزا ؟
إيليا ابي ماضي على غير فرويد يبين أنه مهما تضافرت جماليات البيئة فإن النفس ومكنوناتها تعد أكبر العوامل في التأثير على الإبداع ولإنتاجية الفكرية ،
النفس الحزينة الكئيبة قد تحول حتى الطبيعة الجميلة فتعكسها على خلاف جمالها لذلك قال:
إن شر النفوس في الأرض نفس
تتوخى قبل الرحيل رحيلا
وترى الشوك في الورود وتعمى
أن ترى الندى فوقها إكليلا
وهو هنا يعكس النظرة السلبية التي لا ترى الجمال في الجمال بل لا ترى منه سوى ما يعكر صفوه وان كان أقله.
والعكس لدى شعراء الصحاري، فلو سلمنا بنظرية إيليا نعود لمن لا يجدون أصلا في بيئتهم طبيعة نظرا لجدبها البيئي ،فهل تقف البيئات الصحراوية المجدبة عائقا أمام إبداعات شعوبها ؟ وهل الإبداع رهن البيئة فقط؟ الشاعر الأمير خالد الفيصل (دايم السيف) عكس أجمل الصور في صحراء مجدبة :
سريت ليل الهوى لين انبلج نوره امشي على الجدي وتسامرني القمرا
طعس وغدير وقمر ونجوم منثوره وانفاس نجد بها جرح الدهر يبرا
الوصف عذبة والأعذب منه انعكاس مكنون حب الشاعر وعشقه لأرضه وصحرائه القاحلة حتى جاءت أنفاسها لتبري جرح الدهر.
خلاصة القول أنه قد تغني عواصم ومدن ثراء قرائح شعوبها الفكرية والأدبية ولكن قد يخرج الإبداع أيضا من قعر البيئات المجدبة القاحلة أو رحم المعاناة .
أولم تنتقل العواصم الثقافية من وطن إلى آخر ومن عاصمة إلى أخرى ومن بيئة إلى بيئة؟
إنه إلهام لأمرين ، التنوع البيئي والتنوع البشري، لذلك لكل عاصمة مذاقها الفكري ، ولكل إ بداع لذته، المهم في كل ذلك التلاحم الفكري لأنه السمو الإبداعي لغنى العواصم مهما أجدبت طبيعتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق