مداد القلم- الشرق
الأحد 17 يناير 2010
هل تعيد الدوحة العاصمة مسيرة العصر الذهبي في الحضارة الإسلامية؟
لم لا ؟ فالمناخ الذهبي ليس وليد يوم وليلة بل هو نتاج حصاد، وقطر لم تبدأ مولودا فكريا في 2010 ، ولم تبدأ لتحبو أيضا، لأن الرصيد الثقافي لأي وطن ليس وقتيا ولا انتقائيا بل هو مستمر ومتنوع وتراكمي.
يحق لنا أن نطلق "الذهبي" على عهد "الدوحة" الثقافي 2010 لا لأنه سيبدأ بأوبريت "بيت الحكمة" مستلهما العصر الذهبي "العباسي" للحضارة الإسلامية ، بل لأن الثقافة كلّ مركب لم تطلقها قطر في هذا الوقت رقما خارج سياق انجازاتها المتعددة,فلا يطلق العصر الذهبي على انجاز تحققه الدول في مجال واحد ، ولكن إذا ازدهر ازدهارا يغطي كافة مناحي نهضته الفكرية ثقافيا وعلميا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ثقافة كلّ لا يتجزأ واستحقاقات الضيافة في العاصمة لا تكون فقط بوزن الضيف بل بوزن المضيف أيضا، ولقطر وزنها.
وهذا يترجم لدينا ما عناه سمو الأمير في أن تكون قطر عاصمة أبدية للثقافة ،وهو قول فيه كثير من الثقة بقطر وضعت في مكانها ، لماذا؟
*** قطر نجحت في احتضان وإدارة وتنظيم الكثير من المناسبات والأحداث السياسية والرياضة والاقتصادية والفكرية والعلمية على مستوى عالمي،
قطر فيها خليط متجانس من البشر لا تتجاور فيه الثقافات المتبادلة فحسب بل يتحاور فيه الجميع في روح من التسامح والإخاء الذي يعد عاملا رئيسا في نقل الفكر والاقتباس والتأثر والتأثير.
وإذا كان التاريخ العربي قد عرف الحصاد في الثقافة العربية في عصر الرشيد و المأمون وما تلاه لتؤرخ أبرز مراحل مسيرتها التي خرجت فيها من الخصوصية إلى الإطار الأوسع، لتمثل نموذجاً للالتفاف الإنساني تبادلت واختزنت موروثات ثقافية ليست من صنع أبنائها فقط بل امتزجت منصهرة بمذاق لغوي عربي.
فإن دولة قطر على ذات النهج قد فتحت أبواب العلم وجامعاته ومراكز البحوث والدراسات الإنسانية والإبداع والابتكار في مختلف المجالات، وواحات العلم والتكنولوجيا وجمعت علماء مغتربين وطلاب علم من شتى مشارب الأرض لتذكرنا بأبرز السمات التي تميّز بها العصر العبّاسي ألا وهي ازدهار الحركتين العلمية والثقافية.
وانتشرت في قطر كما العصر الذهبي الحلقات العلمية المختلفة والمجالس والصالونات الأدبية سواء كانت تحت مظلة أجهزة ثقافية أو منظمات المجتمع المدني أو بين المثقفين أنفسهم في دورهم الخاصة أو من خلال صالونات رفيعة المستوى في قمة الهرم، ومجالس العلم في العصر الذهبي معْلم ثقافي بارز يعقد في بلاط الأمراء او الوزراء، قد نرتجي أن يخرج منه في قطر اذا احسن تعهده كما خرج (الفيلسوف المعروف والطبيب الطاجيكي) ابن سينا ، في بلاط الوزير همذان والذي حرر من خلاله عدداً من فصول مؤلفه الكبير "الشفاء" هو محاط بتلامذة من طلبة الحكمة والعلم والطّبّ من العامة.
كما كلفت قطر حق التعلم مجاناً للجميع وفتحت أبواب المعرفة والثقافة حتى الالكترونية منها لتواكب العصر، واحتفت بالتراث والهوية والفن المعماري الإسلامي والفنون التقليدية والمتاحف والشؤون الإسلامية فالمساجد مفتوحة و "فنار" في الثقافة والدعوة الإسلامية يتوسط قلب الدوحة لتنير برامجه غير المسلمين أيضا خصوصا وان فنار يقدم برامج وأنشطة دينية وثقافية متعددة حتى لعابري قطر من غير المسلمين عبر رحلات المرور "الترانزيت" ، هذا والمساجد لا زالت منارات إشعاع فكري ومركز تعليم للقرآن للنشء يتدارسون فيه حفظ القرآن وتجويده وان احتاجت لتؤدي دورها على الوجه المطلوب اهتمام وموازنة أكبر لتحيي أيضا دور "المؤدب" في العصور العربية والإسلامية الزاهرة.
وفي قطر برزت أهمية المناظرات العامة سواء المناظرات للمختصين أو النخب الفكرية المثقفة أو للمبتدئين ممثلة في "مناظرات" الدوحة و "مناظرات قطر" فضلا عن المناظرات المدرسية في مبادرة "تعليم لمرحلة جديدة" لتدريب الجيل عليها.
وفي المناظرات يتم تداول الفكر والرؤى حول قضايا جدلية تذكرنا أيضا باجتماع أهل الملل والنحل في العصر العباسي وتداول ما يثير الجدل دون اختلاف اللهم إلا في مقارعة الفكر بالفكر والحجة بالحجة. فالمناظرات ليست فن مستعرب أو منقول بل هي تاريخ ثقافي موروث أحيته قطر، وجعلت قطر كل هذه الملكات الفكرية والإسهامات الثقافية مدونة وموثقة ومعلنة عبر الإعلام الذي يمثل الاهتمام به ثقافة عالمية، بل أضحى الإعلام الدولي ذاته فيها بلاطا للثقافة ومصدر تنوير لا لشعب بل لأمة متكاملة بل وصل صداه غيرها من الشعوب والأمم.
هذا بعض من رصيد قطر الثقافي والذي لا يسعه مقال. وتلك الحركات الفكرية ومناراتها لم تكن لتزدهر إلا بوجود رؤية قيادية مستنيرة ومناخ سياسي واجتماعي وفكري مؤاتٍ للاتصال والتفاعل الخصب المثمر بين الثقافة العربية وبين ثقافات الأمم الأخرى كما فعل الرشيد والمأمون مع الثقافات المستعربة، أو المجاورة.
وقد يعادي البعض الثقافات المستعربة مستهجنا دخولها بلدنا فيروج لقطر على أنها داعية للتغريب ، ولكن تلك النظرة لا تتعدى نظرة من يرى الشكل الخارجي لسجاده نسجها المستشرقون للعصر الذهبي لحاضرة الثقافة الإسلامية مبرزا الجواري والقيان مختزلا بل مغفلا تاريخا أعمق وثقافة زاخرة وعصرا ذهبيا كان الأجدر ان تترجمه هذه الرسوم في النسج.
التاريخ يؤكد على ان التمازج الثقافي يولد النهضة الفكرية مع ضرورة احتفاظ الأمة المحتضنة بعنصرين أساسين هما: "الدين واللغة" أهم عناصر "الهوية"
وهذا جل ما نتمناه هنا، إذ ان العصر الذهبي مع ما شهده من صلات ثقافية واسعة بين العرب والفرس والروم ، جعل اللغة العربية لغة رسمية للشعوب أيضا تترجم ما بينهم علاقات سياسية وتجارية وثقافية ودينية، فتعلم العرب لغات غيرهم وعلموا لغتهم وسادت بقوة وظهرت آثارها في فلسفتهم وكلامهم وعلومهم وآدابهم.
العصر الذهبي في قطر يحتاج منا أيضا إلى أن نعي "قطر الزاهرة" ، ان نفقهها ونفقه مسيرتها ورؤيتها ، وليس العيب في فهمنا لرؤيتها ولكن في تشتت وتبعثر الجهود فيها وتعامل المنارات الفكرية والإشعاعية فيها على ثقافة الجزء لا الكل، وحب إبراز كل منارة فيها لعملها ك "ذات" الأنا وليست "ذات الوطن" ، فهو يحتاج إلى توحيد الجهود في مراكز إشعاعها ليستفيد الجميع من الجميع المواطن من المقيم من الوافد والمنارات الثقافية والعلمية من بعضها البعض في علاقات متعدية.
كما نتمنى أن تتوج قطر العاصمة الثقافية بتبوئها زمام الترجمة الفكرية عن الآخر لتكون فعلا "بيتا للحكمة" ليس فقط في أوبريت نظمي بل ترثها "أبا عن جد" وتضيف أبعاد العولمة والنظام الثقافي الجديد في "مكتبة إلكترونية دولية" تغذي مدنها الفكرية والعلمية والتراثية كمرجع و ولتكون منارة للعالم في شتى المجالات كما كانت مكتبة "دار الحكمة" في عصر الرشيد.
ومما تجدر الإشارة إليه،
قبل عشر سنوات ليس أمرا عابرا أن تكون في أقصى الغرب وتعرف نفسك "من قطر" فتفاجأ أن لا احد يعملها حتى المثقفين إلى ان تشير إلى " السعودية"
وما الإجابة عندها : آه ..... إمارة نفط وغاز ........؟
ولكن : هل هذا فقط رصيد قطر ؟ ثروة طبيعية فحسب؟
أما اليوم،
فلا اعتقدها قليلة أن يسألك سائق تاكسي مغمور في أقصى بقعة في غرب العالم: من أين جئت؟ وما ان تذكر قطر حتى يشار لك بالبنان، لتُعرّف قطر علَماَ على النهضة الفكرية والإعمار.
نشعر حينها بالفخر لأن إرادة قطر لم تتركنا مجرد بئر أو برميل بترول عائم كما صورونا بل طوعت الآبار النفطية لصنع ثروة بشرية وفكرية ومنارات إشعاعية وصل صداها كل بقاع العالم.
بعد كل ذلك لا نشك بأن أرضية قطر تهيأت لتكون حاضنة "عفوا" بل حاضرة ثقافية زاهرة للعاصمة.
ولكن السؤال : هل تلبي العاصمة - مع كل ما وصلت اليه - استحقاقات الشعب النهضوية، والعكس هل يلبي الأفراد الاستحقاقات الفكرية للعاصمة ؟
إن العاصمة الثقافية همّ الجميع وأملهم وطموحهم لأنها بصمة كل قطري ومقيم على ارض قطر يحسن لا ضيافة ضيف بل وزن المضيف وحبه المتشرب، ونجاح العاصمة نجاح لقطر وشعبها ومن يقيم فيها ،وجزء من رصيدها المستمر.
وأخيرا،،
أيتها "الثقافة" : نحن الضيوف وأنت ِربُ المنزل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق