مداد القلم/الشرق
21 نوفمبر 2010
نتمنى ألا تستعجلوا في الحكم...ليغضب من يغضب ممن قد يظن سوءاً أو يفهم خطأ بأني أدعو لنبذ الصدق والتعامل بالكذب.... أبداً، ليس هذا بيت القصيد ولكن اللغة العربية ذات أسرار وجواهر فهناك جواب شرط لفعل الشرط أو حرف الشرط هنا يأتي بعد كلمة إذا؟
تماما مثلما جاء في الشعر والحكمة.. وقدوتنا أبو الطيب المتنبي عندما قال وهو يخاطب الحمى وهي "المرض" الذي اقض مضجعه بعد عدد من أنواع السقام بعد قوله:
أراقب وقتها من غير شوق ........مراقبة المشوق المستهام
فيصيح فيها المتنبي مناديا برجاه الإخلال بوعدها وينهاها عن الصدق قائلا:
ويصدق وعدها والصدق شر....... إذا ألقاك في الكرب العظام.
ثم يزجرها بقوله:
أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام
صدقت الحمى وعدها وأنجزته، فأوجعت أبا الطيب واقتحمته ليلا، وتخطت الزحام لتوقعه في الكرب العظيم كما وصفه.
وقد أبدع المتنبي في وصفها سلفا بقوله:
وزائرتي كأن بها حيــــــاء فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها فتوسعه بأنواع السقـــــام
كأن الصبح يطردها فتجري مدامعها بأربعة سجــــام
... ولكن المتأمل سيلاحظ أن الصدق ليس شرا في حين واحد فقط وهو المرض، بل لو عاش المتنبي إلى عصرنا هذا لجزم بالأصابع العشرين لا العشرة وبمعلقات لا قصيدة واحدة بأن الصدق جُلّهُ ليس كما قال العرب: "منجاة" بل كثيرا ما يكون "مهلكة وضياعا" خصوصا في زمن ساد فيه الكذب، بل أضحى ممارسه بطلا متوّجا في كل مضمار خصوصا عندما يُعلَمُ كَذِبهُ ويتم التغاضي عنه، الأمر الذي يؤدي إلى استشراء الكذب وتحويله من نقيصة ومذمّة إلى قيمة عظمى في الحياة وذلك على أنقاض الصادقين وأكفانهم.
برافو.. المتنبي،
انك اسم على مسمى.. ربما أسموك المتنبي لأنك تنبأت بتحول القيم في عالم اليوم إلى رذائل والعكس.
اصحُ... قمْ من قبرك وانظر..
لقد أصبح الكاذب واصلا ومحترما والمنافق مهضوما ومطاعا..
أما الصادق — فللأسف — فلا يتخطى بصدقه إلا ما يرتئي أن يجنيه في دار أخرى موعودة بـ "طوبى لهم وحسن مآب" ونِعمَ الدار حقيقةً، أما الكاذبون فهم خفافيش الظلام ولكنهم في درجات عليا يغلفهم كذبهم في دنيا المصالح... وهي دنيا...
لست أعني التجمل ولا الدبلوماسية قطعا، بقصد ما نعني الكذب في الحقائق في الحياة العامة أو العمل والتدليس والتزوير فيها الذي أصبح دين كثير من الناس وديدنهم في مختلف مجالات الحياة.
وما بين نبوءة المتنبي وبين واقع الحال في زمان أغبر.... بتنا في صراع جدلي مؤلم:
هل نربي أبناءنا على الصدق والخير أم الكذب والتدليس؟
هل نربيهم على الاستقامة أم على المراوغة والتعمية؟
خصوصا عندنا نجد كثيرا من "المنافقين والمخادعين" يصعدون على أعتاب منابر الكذب والتضليل في مجتمعات تدعي القيم وهي لم تنجح ليس في مجال تعزيز قيمة الصدق كفضيلة في الخلق الاجتماعي العام فحسب بل لم تفلح حتى في مجالات أعمالها أو إجراءاتها المهنية الموسومة بالشفافية والنزاهة أن تمنع الكذب الذي لم تسلم شوائبه من أن يكون كذبا قوليا باللسان فحسب، ولكنه كما ينعته العرب "تزوير في أوراق رسمية " أي كذب كما يقول المثل الشعبي "على عينك يا تاجر" على مرأى ومسمع من الجهات المسؤولة، أي تدليس وأي تضليل وأي نزاهة وأي شفافية.
العرب سابقا عانوا من الظلم بقولهم:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلّة لا يظلم
أظنهم اليوم يصرخون:
والكذب من شيم النفوس فان تجد ذا عفة فلعلّة لا يكذب
لقد أصبح "الصدق شرا" بات الكثير يخاف عاقبة قوله، ومع ذلك يصدق الصادق فيضرب ويعود ليصدق فيضرب مرة أخرى ويعود ليصدق حتى يكتوي بصدقه وكذبهم... ولن نكرر نكتة الصعيدي والمقص قبل أن يُغطّس غرقا في البحر لأنه اعترف بان ما أمامه "مقص.. مقص...، مقص.." تحت التهديد لأن يغير أقواله حتى ينجو وهو حقا كذلك فهلك.
كيف يعود الصدق للكون ولم يترك الكاذبون مكانا للصادقين....
كيف تفعّل قيمة عظيمة مثل "الصدق" في مجتمعات "الهرولة" و"القفز" مجتمعات "النفاق " و"المصالح" و"الأنا" وما تسلم إليه من "جور وظلم "....
أخال البعض سييئس ليردد على مدى الزمن قول المتنبي:
ويصدق وعدها والصدق شر إذا ألقاك في الكرب العظام
ولكن أيها "الصادقين المكروبين "..: لا تجزعوا
"أحَدٌ... أحَدْ..." موتوا دون شرفه...... طاب صدقكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق