مداد القلم/الشرق
02 مايو 2010
كانت جلسة فكرية لا تمل خلال زيارتك لقطر الأسبوع الماضي، ومن يمل حديث العالم الفلكي والجيولوجي العربي الدكتور فاروق الباز خصوصا عندما تتجاذب فيه أطراف الحديث بالأخذ والرد والسؤال والجواب والإفادة من هذه الخبرة العظيمة في كل مسارات الحياة عن قرب.
عالم توج العلم بالسماحة والتواضع وروح الدعابة التي قلما يتمتع بها أعلام الفكر، تلك التي تسبغ على العلم وقارا وشرفا إنسانيا.
وفي نقاش حول الجيل وطموحاته، لابد وان يأتي الحديث حول مقاله الشهير: "فشل جيل"، د. الباز يحلل ويؤرخ التجربة العربية في مقال ويسجل للزمن ما يجري مثلا في كل زمان ومكان، وما عانى منه جيله ومازال يعاني منه كل جيل وكأنه كتب مقالا شاملا جامعا ليس تاريخيا لتأريخ أسباب الفشل في وقت ما، بل تحليلا دقيقا لما يسبب الفشل ويعطل قدرة البشر والأفراد في كل جيل وفي معظم الأوطان خصوصا وأنه يؤكد على أن جزءا من الفشل هو وضع الثقة في غير أهلها، والاعتماد على المؤسسات الواهية وليس بناء واحترام الإنسان القادر على القيام بالعمل، فضلا عن إنشاء الحكومات لوسائل إعلامية استخدمت فقط للحفاظ على نفسها مما ساهم في استشراء الفساد واللغو وتخدير المواطنين بطنين إنجازات كاذبة. ومن ثم اعتماد الحكومات في إدارة مؤسساتها على "أهل القرابة بشتى أشكالها، والمعارف الذين عينتهم بدلا من أهل الخبرة والمعرفة "العلم والفكر"، مؤكدا أنه من أهم أسباب التأخر والتراجع الذي يعد مرتعا وخيما لاختناق التطور واختفاء الإبداع رويداً رويداً.
وهذا حسب قوله ما تصادم معه جيله من أهل العلم والفكر والتكنولوجيا فهاجر البعض إلى كل بلاد الدنيا ليثبتوا أن العربي قادر على الإبداع في العمل إذا توافرت البيئة المناسبة.
د. الباز يؤكد على ضرورة وضع ثقتنا في الإنسان بتبجيل الفكر والمعرفة وتشجيع المبادرة وتقدير الامتياز واحترام العمل للصالح العام وليس سيطرة الوصول إلى الثروة المالية في أسرع وقت وأسهل وسيلة.
واليوم وبعد سنين يكرر د. الباز ذات المقولة في حواره فمايزال هذا التحليل ماثلا، وإذا كان عالمنا قد أشار إلى فشل جيل، فليسمح لنا أن نسميه في جيلنا " الشلل "، لأن الفشل له أسبابه، ولكن عندما تصل المجتمعات إلى تطور تستدعي فيه استخدام عناصرها الإنسانية ومواردها البشرية ولكنها في الوقت ذاته تشل قدرتهم وتعطل طاقاتهم فهذا لعمري معطيات للشلل الذي يعد أشد وطئا من معطيات الفشل لأنها قمة الإحباط وسوء التقدير للقدرات الإنسانية، بل إنها لتتسبب في وأدِها حيّةً.
فإذا كان فشل الجيل الماضي رهنا بعوامل عدة منها ما نسميه إلى اليوم المحسوبية في تقريب أهل المعرفة والقرابة دون أهل العلم والمعرفة والخبرة والتي تعارض أدني مبادئ القوانين الدولية في النزاهة والشفافية، فإن هذه الأسباب مازالت قابعة وموجودة وتمارس ضغوطها على جيل اليوم حيث تشل عمدا كل بذرة إبداع أو ابتكار ليس بسبب رؤية للسياسات العليا للوطن التي تشجع روح العلم والابتكار بشكل ملموس، ولكن لغياب التطبيق الفعلي للرؤية بسبب أو آخر وتضليل عن الرؤية الحق وشلِّ لها إما بحيازة أهل المعرفة والقرابة "لا العلم والحكمة " دفة الأمور وتزعمهم الثقة وسيطرتهم على بلاط الحكام والحكومات، وبالتالي تعتيم سلطة القرابة والمعرفة "المعارف وذوي المصالح" على سلطة العلم والخبرة القحة النبيلة الأهداف.
لقد فشل "الجيل" ومازال أيضا إلى اليوم من خلال المؤسسات التي وضعت ديكورات فقط لتشل قدرة الإنسان في وطنه عن الحركة، التي حسب زعم الفلسفة موجودة بالقوة وليس بالفعل مع إدراككم لفلسفة افلاطون في الوجود الفعلي والفرق بين ما هو قائم بالفعل وما هو قائم بالقوة.
وبالأسلوب السهل: أي مؤسسات صيغت بأهداف نبيلة ولكن إما تسيّس ببيروقراطية سمجة تلغي الإبداع والابتكار وتجمده، أو بتحكم وضغوط ليس أولى الأمر وأهل الحل والعقد فيها، بل من خلال متنفّعين حول أهل الحل والعقد من أهل الوطن وغيرهم من خارجه — وهم الوسطاء والقنوات الوحيدة — ويهمهم ألا يحقق الانجاز لينسب لأهل العلم بل لأهل المنافع والمصالح الخاصة، وذلك لعمري منتهى الشلل ليس للمؤسسات بتجميدها ولكن للأفراد الذين قُدِّر عليهم ظلما ان يجلدوا بدحرهم وراء أكمة من أهل القرب المكاني أو المعرفي في البلاط، ولا صوت يعلو على صوت المعركة وبذلك يخسر الوطن أبناءه، ويخسر مؤسساته ونجاحها على المدى البعيد.
أستاذنا القدير د. الباز، حديثك عظيم، لقد تراجعت قيمة المواطن وقيمة المواطنة الحقة وأصبح ابن الوطن في أرضه ناقص عقل ودين أيضا يوم ان تفرقت الملل والنحل، ورجحت عقول التغريب أيضا لتلعب دور المحظية لدى أولى الأمر في كل قطر وفي كل مؤسسة لتلعب دور الوصاية على العقل المواطن لتفت في عضده، وتطعن في أهليته في دورةٍ من دورات التاريخ تتكرر وحساباتها وللأسف المصالح المتبادلة ومعايير الربح والخسارة خصوصا واسمح لي أن أشبه في أوطان مثل " دولة قطر" التي لمع بريقها للبعض او — للكثير عفوا — إلا من رحم الله، وسال لعاب من سال لا لها ولمجدها، بل لما فيها من ثروة محتملة خصوصا وإننا لاحظنا عن كثب حسابات الربح والتكسب من أموال مؤسساتها كما أسلفتم في تحليلكم عن سبب الفشل في البعد عن المصالح الوطنية للشأن العام إلى المصلحة الخاصة أو المتبادلة وكسب الثروات في أسرع وقت ممكن.
د الباز، قضيت حياتك مثل غيرك من المبدعين خارج حدود الوطن بل وصلت بفكرك القمر، فتفوقت وأبدعت وحددت لهم مواقع النزول على سطحه واكتشفت اكتشافاتك الكونية التي حفظت حقوقها باسمك ومنها تربتك المائية التي نحبها في صحرائنا ونتمنى عودة أنهارها التي حضنتها بحنان، لأن عقل مبدع مثلك حتما بذرته لم تخلق لأرضه، بل إن التعامل الغربي احترم عقلك لا جنسك أو جنسيتك في بلاد تحترم العقول سواء كانت عقول أبنائها أو غيرهم لأنها البيئة المناسبة التي تخاطب العقل بصفته دون أن تهين عقول أبنائها أو تمجد عقل غيرهم عليهم "فالفكر" لا جنسيَة له وكل الكون أوطانه وأولها وجوبا محضنه الأصيل. وهذا لعمري الفرق بين دولنا ودولهم، فالعقل المواطن غالبا ما يعاني التهميش أو التمييز العنصري ضده في أرضه.
د الباز، ننتظر مقالك الآخر عن "جيل الشلل"، عمن اعملوا فكرهم وعمرهم لتخطي الفشل ففاجأهم الشلل الذي عطل إرادتهم قسريا وليته بقي على ذلك، بل ركنهم بعد التسبب في شللهم.
د الباز لسنا ندري، هل نؤمن بما آمنت به وطبقته في الهجرة موطنا للإبداع؟
ننتظر رأيك وخبرتك، ولا نكاد نصبر لنسمعه في زيارة أخرى لشخصكم الكريم إلى قطر فنحن متشوقون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق