الخميس، 22 أغسطس 2013

المحبة هي سر......

مداد القلم ... الراية 1 فبراير 2009
إعلان تشويقي بسيط  نور أعمدة الإنارة بالحب في قطر  بخلفية حمراء طرزتها لغة بصرية لورود وأغصانها بلون مشتق،  تشبه شقائق النعمان رسما ووظيفة وفقا لمقولة الشاعر:
وقد نبه الفيروز في غسق الدجي
أوائل ورد كن بالأمس نوماً
نعم لقد نبهنا رغم كونه  لم يورد جديدا سوى هذه الجملة؟
(المحبة هي سر......)  تاركا لنا مساحة حرة للتفكير خصوصا وإن كلمة سر في التصميم جاءت في آخر الإعلان  لتوحي أن الجملة ناقصة وأن السؤال المدرسي القديم الذي نسيناه في زحمة الدنيا عاد مجددا ليذكرنا أن علينا أن نعبئ خانة الفراغ هذه كل وفق-  ليست شطارته بالطبع-  بل روحه ، وسعة قلبه، ونظرته للحياة.
ولنا بعدها  أن نتخيل سر ماذا؟؟   فقد نضيف كلمة (الحياة) أو (الوجود) أو (البقاء)  أو (التعاسة) (الشقاء) رغم براءتها مما تأخر.
استنكرت عيني هذا الإعلان لا رفضا له ، بل تعجبا لعودة الروح بعد طغيان المادة وضوضاء العمل والخط الأحمر في كل شيء........
الحضور والانصراف ، شوارع قطر التي صبغت بالعلامات الحمراء التي ما فتئت تذكرنا بوعورة الطرق وخطورة المسالك وإجبارية المنحنيات ، والإشارات الضوئية الحمراء الغاضبة التي توقفنا في كل ركن فجأة مخافة أن نتجرأ على الأحمر فتطاردنا لعنة الغرامة الواحدة بنصف دخلنا الشهري أو كله أو  زد عليه قليلا.
فهاجم  الأحمر الطريق مجددا،  معززا وجوده في ذات  المنطقة التي هتكت سيرته بالغرامات الحاقدة  ليعيد تاريخ عشقٍ خلّده، حتى نُسجت جميع معاني واهداءات الحب في لونه ، ليست إشارات الطرق الحمراء بالطبع بل عودة للروح التي ما زالت تنبض بالحياة رغم كل الخطوط الحمراء فيها.
فسألت نفسي عن سبب إعلانه فأجابت مباشرة: (آه إنه إعلان عيد الحب (الغربي) بالطبع، لأنه قريب)  إلى الدرجة التي جعلتني أنسى في خضم جدولة الإعلانات التجارية أنه-  وقت ظهوره- كنا في منتصف شهر يناير.
 قد يظنني البعض أبالغ إذا قلت بأنه لم يلفت نظري إعلان على أعمدة إنارة كهذا...... ربما لأنني لمحته بعد يوم عمل وعناء استغرق كل ساعات النهار، نار لم تجعل لغة غير لغة التقارير والحسابات والرقمية تحولنا فيها إلى موظفين ديجيتال، وأمهات وآباء ديجيتال وأفراد  ديجيتل ، فطغي الديجيتال على لغة الحب وحتى عندما نتخاطب عفنا اللغة الشاعرة إلى نزعة رقمية جديدة طوعت حتى الحروف وحولت اسمى المشاعر إلى صفائح ومعلبات وايميلات جوفاء، ورسائل على  دردشة سيبرنتية، ومسج (وهكذا اسمها) على  ال إس إم إس اختزلت بقسوة  لغة شاعرة استوعبت امة عاشقة فمسختها مما عزز (حب الوطر) و تجارة الحب الرخيص ، وانتشار الحسد والحقد والكراهية والبغضاء.
نتساءل هل شدنا الإعلان بسبب لغته الشاعرة  التي عزفت على أوتار قلوب عفّرتها المدنية الصاخبة؟  أم لبساطة التصميم ورمزيته تشويقا لما سيعلن بعده؟
أم  أصبح الحب في كلمة ونقش في حد ذاته  رحمة بعد أن كبلت الروح وسط  زحمة الحياة ........ وضغط الأعمال ......التي سيطرت حتى على  الإعلانات الإلكترونية والمطبوعة في الطرق التي لم تعد تذكرنا إلا بأن افتتاحا أو ندوة أو مؤتمرا بات مباغتا،  تلك التي خطت جداولنا ليل نهار حتى باتت أنفسنا ملك عملنا ومهامنا والتزاماتنا،  ولم نعد نملك منها سوى قسمنا فيها، هذا إذا  افترضنا خطأ أن المباغتة العملية الصرفة الجدبة لم تستلم العقل والقلب معا.
تفنن الفلاسفة في الحب ، وتغنى به الشعراء وحاولوا جهدا بعد أن أبحروا في غياهبه أن يعرفوا كنهه فاحتاروا ..... ولا أخال إعلانا سيبذهم فيما حكوه عنه في معلقات ومطولات وقصائد لم تصل بعد  إلى وصف الشعور بعد أن انهكوه  بحثا وتشبيبا فأنهكهم بلذته وديمومته وأبديته، ومع كل ذلك لم يسبروا أعماق بحره.
 لكن الجميل في الفلاسفة والشعراء إنهم - بخلاف التجار-  لم يجرؤ أحدهم أن يتاجر به أو يحوله إلى سلعة رخيصة للكسب.
لقد قدسوا قدسيته وديمومته فم يفردوا  له يوما أو ساعة ، أو خلسة المختلس ، لأنه عميق عمق الجذور،  لذلك ارتقى بهم يوم أن ارتقوا به، وصنع لهم الإبداعات يوم ان عرفوا قيمته فجادت به القرائح  والألسن . لم يطرقوا لونه، فلم يشببوا بالأحمر، بل تساءلوا عن سببه، ففي أدب رفيع، أرجعه بعضهم إلى العين مختزلين عمق الشعور في الصورة ، فحكم حاكمهم:
 أن العيون التي في طرفها حَوَرٌ
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
 يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
  فضج عليهم  بشار بن برد مستنكرا ، وهو يحمل روح المحب دون نعمة النظر ، فهتف فيهم منوها:
 يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
 والأذن تعشق قبل العين أحيانا
  قالوا بمن لا ترى تهذي قلت لهم
 الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
فهل أقيمت دراسات على تجربة بشار الأعمى، وهل تعشق الأذن قبل العين؟ ومن الأقوى في التأثير العين أم الأذن؟
البعض يؤكد أن بشار محق خصوصا في الثقافات التي تمتنع فيها الرؤية،  ومن ثم قد تعزز العين ما سمعت وقد تحبطه خصوصا  بعد أن ضجت مجتمعاتنا بالجدل السيبرنتي (أعني الحب المزور الرخيص) عند المبصرين العمي؟
نزار صور حداثة الحب ودون الصور العصرية الورقية الهشة  فقال:
كنت في الماضي
عندما أعيش قصة حب
أستعمل ورق الرسائل ..
والهاتف ..
وأزهار القرنفل ..
ودواوين الشعر ..
لأقول لك : (( أحبك )) ..
واليوم ..
............. ب ( الفاكس ) ..
ولا أعلم هل وصل نزار وقتها الإنترنت، وال إس ام إس؟ أعني وسائل الفشل.
ولكن هناك
فريق ثالث وازن في السبب حتى جعله تهمة بين الاثنين، الأمر الذي جعل الشاعر يجن فلا يعلم لمن يبث شكواه:
يقول طرفي لقلبي هجت لي سقما
والعين تزعم أن القلب أنكاها
والجسم يشهد أن العين كاذبة
وهي التى هيجت للقلب بلواها
لولا العيون وما يجنين من سقم
 ما كنت مطروحاً من بعض قتلاها
ولأن الجريمة مشتركة ، اشتكى الجسد:
فقالت الكبد المظلومة : اتئدا
قطعتماني ... وما راقبتما الله
وعاد الشاعر إلى الله يبتهل إليه بالدعاء:
فعيني وقلبي قد تقاسمتما دمي
فيارب كن عوناً على العين والقلب
ومع انعدام الحيلة ، ظهر فريق آخر كذب العين والأذن، معتبرين المحبة روحاً أو كما قال الإعلان (سر) وهي حقا سر ، وقد عبر عنه المحدثون مدخلين العلم بقولهم (كيميا) وما معنى (الكيميا) في قاموس الحب إلا الالتقاء الروحي للمشاعر التي تلتقي بين طرفين دون وعي ، وهي في ذلك ليست حكرا على الحب بين الجنسين ، بل حتى المحبة بين عموم البشر التي تحكمها الروح أو الجاذبية المغناطيسية.
فلسفة القدماء في ذلك منطقية، وربما يشعر بها الضرير أكثر من المبصر فقد قال  بشار بن برد:
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى
فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحب
فما تبصر العينان في موضع الهوى
ولا تسمع الإذنان إلا من القلب
الفريق الخامس خذلنا فهو علمي بحت، اخترق الحب عنده الروح والعين والأذن والقلب  إلى العقل حيث أكدت  دراسة علمية حديثة على أن تقييم الأمور التي تتعلق بالمشاعر تتمتع بدعم بيولوجي لا يرتقى إلى التفكير المجرد والذي يمكن أن يُطلق عليه تفكير العقل.
 أوضحت الدراسة التي أجرتها جامعات بارما الايطالية و توكسون الأمريكية أن قدرة العقل على مواجهة و حل المشكلات العاطفية و العلاقات الإنسانية البينية بين الناس أكبر من تلك القدرة المعنية بالتفكير المجرد .
فأكد العلماء أن الحب مكانه العقل لا القلب فلكل إنسان خريطة خاصة به موجودة داخل عقله تساعده على اختيار الشخص المناسب  دون غيره.
ربما أقنع العلمانيون العالم بأن مرجع الحب إلى العقل، وهذا ما يفسر وجوده في السلع والتجارة،  أو على إعلانات في أعمدة الإنارة تستحث العقل ليعمل تفكيره عن ماهية ما وراء هذا الإعلان وليس كنه مدلول جملته في حد ذاتها
وإذا كان الإعلان قد تقدم في يناير في قطر للإعلان عن مؤسسة أو مركز او خدمة أو سلعة قد يفصح عنها قبل نشر مقالي هذا، لا ضير أن نشكر القائمين عليه كونه مثل للمنهمكين والأشقياء  في شؤون العقل وسط الضوضاء العملية والصخب الوظيفي الجارف (عودة للروح) من جديد، جعلتهم لا يفكرون فيما وراء الإعلان بقدر ما يتبصرون في  كلمة (سر).
والسر حتما في (الروح) ، الم يقل تعالى بأن الروح من أمره ،... كذلك الحب روح.
الجواب عند أبي فراس الحمداني، فمن كان يظن انه طوع الحب للعقل عندما قال:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟       أجابهم بالنفي:
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا للهوى أمر،  وللهوى نهي ، والقلب سر اللوعة وسر الشوق.
ولكن العقل يا مدرسة بارما وتوكسون يقول:
"إن مثله لا يذاع له سر"
لذلك أودع سره الظلام قائلا:
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبر
فصدق الإعلان "المحبة هي سر".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق